لماذا أنا أرثوذكسي

لماذا أنا أرثوذكسي؟

لو لم أولد أرثوذكسياً، لوددت أن أكون أرثوذكسياً.
القمص زكريا بطرس

 

كلمة الناشرين
للطبعة الأولى


بانسحاق وخشوع نرفع قلوبنا المملوءة فرحاً وتهليلاً مع أصواتنا المرنمة بالحمد والتسبيح إلى السماء حيث كرسي الله لنشكر الجالس على العرش خالق الكل الديان العادل الذي "يخرج الحق إلى النصرة" (مت20:12) الله الآب. لأنه وضع بين أيادينا كتاب

{لماذا أنا أرثوذكسي؟}

للخادم الأمين القمص زكريا بطرس ذي الإيمان الراسخ، الذي قدم لنا لا كتاباً بل كنزاً يحوي بين طياته أحجاراً كريمة ولآلئ ثمينة، وسراجاً مضيئاً ليبدد الظلام والجهل بأمانة وجرأة، وليظهر موقف كنيستنا الأرثوذكسية العريقة التي ظلت شامخة الرأس دائماً أبداً تصد كل التيارات العاتية أثناء مسيرتها في درب الزمان لتسلم راية إنجيل المسيح الخفاقة التي تسلمتها من يد شهيد الإيمان مار مرقس الرسول كاروز الأرثوذكسية، ومعها تسلم تراث الآباء والأجداد إلى الأبناء والأحفاد من جيل إلى جيل لتكون نوراً ساطعاً عبر كل الأزمان.

ولقد كان مقدراً لهذا الكتاب أن يظهر إلى النور مع مطلع هذا العام على أن يقدم له قداسة البابا المعظم الأنبا شنوده الثالث بعد أن استلم النسخة الأصلية منه في أواخر أكتوبر من العام الماضي ولكن مشاغل قداسته الكثيرة التي نطلب من الرب أن يعين قداسته فيها قد حالت دون ذلك. "ولكل شئ تحت السماء وقت" لذلك نشكر الله الذي سمح لنا أن ننشر هذا الكتاب حتى تعم الفائدة على الجميع حين يقرأون كتاباً يُعد الأول من نوعه في مكتبتنا القبطية الأرثوذكسية من حيث تناوله لهذه المواضيع الجوهرية علاوة على أسلوبه الشيق كما أن القارئ سوف يجد نفسه سعيداً وفخوراً لانتمائه إلى أرثوذكسيته بعد أن يكتشف أصالة مذهبه ويجد حلاً لكل ما كان لغزاً بالنسبة له، ومعنى لكل الأمور التي طالما حيرته وجعلته يمارس الطقوس الموروثة دون أن يفقه معناها، أما الآن وقد وضعت النقط على الحروف فإننا واثقون أن وعي القارئ لدقائق الأمور سوف تجعله أكثر ثباتاً وأرسخ إيماناً، وتصيغ منه خلية حية للصلاة والمناداة مع الكاتب لتحقيق غاية المسيح وهي أن نصير جميعنا "رعية واحدة لراعٍ واحد" (يو16:10).

ولربنا المجد الدائم إلى الأبد أمين
أبناء الكنيسة الأرثوذكسية

مصر الجديدة

 

إهــداء

إلى أمي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية

عروس المسيح، وعمود الحق وقاعدته،

أقدم هذه الباقة، ثمرة عصارتك النفيسة.

القمص زكريا بطرس


 


مقدمة الطبعة الثانية


صدر هذا الكتاب في طبعته الأولى باسم "الأرثوذكسية مذهبي" ولكنني فضلت الاسم الجديد "لماذا أنا أرثوذكسي؟" ليكون الكتاب في فصوله رداً على هذا السؤال. ولكي يقف كل من يقرأه على الأسباب التي تجعله يحيا ثابتاً في عقيدته الأرثوذكسية المستقيمة الرأي.



أرجو أن يستخدمه الرب لفائدة الكثيرين

بصلوات حضرة صاحب القداسة البابا المكرم

الأنبا شنوده الثالث

بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية

وسائر بلاد المهجر

ليحفظه الرب سنين كثيرة وأزمنة سالمة هادئة مديدة أمين.


 


مقدمة الطبعة الأولى

لآلئ مستورة، وكنوز مطمورة ، خلبت لبي، وملكت عليَّ قلبي، فاستمسكت بها عقيدة، وتشبثت بها في إصرار، فكانت مذهبي الذي لا أرتضي به بديلاً.

واليوم أزيح عن جواهرها ستاراً، وأكشف عن مكنوناتها نقاباً، وأميط عن أسرارها لثاماً، فيرى العالم ما في الأرثوذكسية من أصالة ويكتشف الباحث ما في عقيدته من استقامة، ويتأكد المتشكك بما في مذهبي من حكمة وعدالة.

ولا يتبادر إلى الذهن أنني متعصب للأرثوذكسية لأنها مذهبي، فما أمقت شيئاً نظير التعصب الأعمى. وإنما أنا متمسك بإيمان كنيستي التي تسري دماؤها في عروقي، والتي رضعت لبنها منذ الطفولية، والتي كان لقديسيها وآبائها، ولا زال، الفضل الأكبر على إيماني.

كما أرجو أن لا يؤخذ كلامي على محمل الطعن في عقائد الآخرين، فما أبغي إلا أن نعيد حساباتنا على أساس من الفهم السليم للحق الإلهي في ضوء مفاهيم آباء الكنيسة الأولى، حتى نصل إلى الوحدة الإيمانية والعقيدية التي قصدها السيد المسيح بقوله: "وتكون رعية واحدة وراعٍ واحد" (يو16:10).

أيها الرب يسوع، يا من رفعت عينيك إلى السماء وطلبت من الآب القدوس أن يحفظ الذين أعطاك في اسمه ليكونوا واحداً، وليكون فيهم الحب الذي أحبك به (يو11:17-26)، أسألك أن تحقق هذه الطلبة لكنيسة اليوم ليكون الجميع جسداً واحداً، وروحاً واحداً، بحسب رجاء الدعوة الواحد، رب واحد، وإيمان واحد، ومعمودية واحدة (أف1:4-5) ليتمجد فيها الإله الواحد، من الآن وإلى الأبد. أمين.


المؤلف

 

الفصل الثاني عطاء وأخذ وديناميكية




تمثال البر الذاتي
شعار مبتور توازن بديع
بذار وثمار
أساس وبناء إيفاء ووفاء
امتياز والتزام
عطاء وأخذ وديناميكية


من القضايا الأساسية التي تطاحن بازائها المعسكران الغربيان قضية [النعمة والإيمان، والجهاد والأعمال].

والنعمة تمثل العطاء الإلهي المجاني، والإيمان يمثل جانب الأخذ الإنساني، والجهاد والأعمال يمثلان ديناميكية المؤمن الحي.

أما المعسكران الغربيان فكان لكل منهما اتجاهه بصدد هذه القضية الجوهرية.



تمثال البر الذاتي

لقد ذهب المعسكر الكاثوليكي إلى القول بأن الخلاص يتم على أساس أعمال الإنسان وجهاده، وجعلوا من الصوم والصلاة والصدقة وفرائض العبادة رصيد غفران لجرم الآثام، أو بحسب تعبير أحد المؤرخين:

[رصيد حساب روحي في البنك يستعين به المرء على نيل الخلاص]

(عشرون قرناً – حبيب سعيد – ص 177)


أو كما قال الأرشيدياكون حبيب جرجس:

[الغاية منها وفاء العدل الإلهي الذي أهانه الخاطئ بخطاياه]

(أسرار الكنيسة السبعة – حبيب جرجس – ص 143)


فنادوا على سبيل المثال بأن ترديد "أبانا الذي في السموات..." عدداً معيناً من المرات، يغفر قدراً معيناً من الذنوب وهكذا الحال مع بقية أنواع العبادة على اعتبار أنها قصاصات (عقوبات) للخطايا.

(أسرار الكنيسة السبعة – حبيب جرجس – ص 142 – 148)

وبهذا أصبحت الديانة عملية آلية خالية من المشاعر الحبية، والشركة القلبية مع الرب. وما عاد للصليب المقدس دور في حياة الإنسان، إذ قصروا عمل الصليب على مجرد التكفير عن خطية آدم الجدية الموروثة. أما الخطايا الفعلية التي يرتكبها الفرد، فإنما عليه أن يكفر عنها بنفسه عن طريق الالتزام بالعقوبات الكنسية التي تُفرض على كل خاطئ من صوم وصلاة وتناول وصدقة..

(راجع أسرار الكنيسة السبعة – حبيب جرجس – ص 142 – 148)


واقتصر مفهوم الإيمان في لاهوتهم على مجرد أن يكون الإنسان مسيحياً قد نال سر المعمودية، ويواظب على الكنيسة ويمارس طقوسها، أما الجانب الروحي للإيمان والعلاقة الشخصية مع الرب التي تهب المؤمن بصيرة روحية كالتي تمتع بها موسى النبي حتى كان له ذلك التلسكوب الروحي الذي قيل عنه "بالإيمان.. تشدد كأنه يرى من لا يُرى" (عبر27:11)، هذا الجانب الروحي أصبح معدوماً على مستوى الممارسة. وصارت صكوك الغفران في فترة من التاريخ جوازات سفر إلى الملكوت تُشترى بالمال، ولا يُشترط معها حياة الإيمان.

(راجع مختصر تاريخ الكنيسة – أندروملر جزء1 ص 566)


هذا عن الموقف الكاثوليكي في انحرافه الخطير لترجيح كفة الأعمال،وتضخيم تمثال البر الذاتي، وإهدار دم الإيمان، والقضاء على عمل النعمة بالإعدام.



شعار مبتور

أما عن المعسكر البروتستانتي بزعامة مارتن لوثر فقد قذف بالأعمال والجهاد إلى عمق المحيط، ورفع شعاراً مبتوراً مؤداه "الخلاص بالنعمة والإيمان فقط بدون أعمال"

(راجع مختصر تاريخ الكنيسة – أندروملر جزء 2 ص220).


وإليك نص ما كتبه أحد مؤرخي البروتستانت أنفسهم إذ قال:

[شدد لوثر على تعليم التبرير بالإيمان دون موازنته موازنة كافية بالحق المتعلق بإتباع المسيح... فقد جاوز الحد حتى أدى إلى إهمال السلوك المستقيم كجزء من الإنجيل.]

(الكنيسة المتغربة – برودبنت ص182)

وهكذا ركب لوثر جواد الشطط في معركة الدماء عندما استهان بأهمية الأعمال الصالحة والجهاد في حياة المؤمن، الأمر الذي حداه إلى تحريض أمراء ألمانيا على قتل فلاحيها، وهذا ما كتبه مؤرخ آخر بروتستانتي عن هذه الواقعة إذ قال:

[وجاهد (لوثر) لإخماد ثورة الفلاحين، على أنه حينما فشل في ذلك واستعرت الثورة، وهاجم الثائرون القلاع والأديرة، حرض الأمراء على قتلهم وإخماد ثورتهم في غير هوادة ولا رحمة... وما وثق به يوماً بعد هذا الفقراء وعامة الشعب]

(عشرون قرناً – حبيب سعيد ص179)


ولم يكن (مارتن لوثر) وحده صاحب هذا الاتجاه، بل سار في خطاه (جون كلفن) الذي يُعتبر الرجل الثاني بعد (لوثر) في الثورة البروتستانتية، فقد ذكر عنه أحد مؤرخي البروتستانت ما يلي:

[بعض عباراته الحادة، ولهجته القاسية، التي لا تجيزها كلمة الله، قد أضرت كثيراً من النفوس الثمينة.. وأظن أنه إلى هذه اللهجة القاسية والعبارات المتطرفة يرجع معظم السبب في عاصفة اللوم والطعن التي لم تزل توجه إلى كلفن والكلفينية إلى هذا اليوم.]

(مختصر تاريخ الكنيسة – أندروملر- جزء2 ص600)

لقد ذهلت عندما قرأت لأحد قادة البروتستانت ويدعى الدكتور ويزرهد L.D. Weatherhead عبارة في ختام إحدى عظاته يقول فيها:

[أيها الشاب … إنني أدعوك لتعود إليه (للمسيح) إذا ما كنت قد ابتعدت عن الإثم فإنه يصفح لك. بل إذا كنت تنوي الآن أن ترتكب إثماً فإنه يغفر لك.]

(علم اللاهوت الرعوي – لبيب مشرقي ص129)

حقيقة أن المسيح يصفح عن الإثم، أما المناداة بأنه يتغاضى عن النية الشريرة فهذا أمر عجيب حقاً إن دل على شئ، فإنما يدل على أن الحركة البروتستانتية بدافع من رد الفعل العنيف ألقت بنفسها إلى اتجاه مضاد لما نادت به الكاثوليكية.

وقد جنت الثورة البروتستانتية الثمار المرة للتعاليم التي بذرتها في أرض عقيدتها، فإن انقسامات هذه الطوائف إلى مئات المذاهب، إنما يدل بلا شك على الولادات غير الشرعية الناجمة عن مبادئ غير مقدسة.



توازن بديع


أما كنيستنا الأرثوذكسية التي لم تتأثر بهذه الحروب الأهلية بين أبناء الدين الواحد في الغرب فلم تنحاز إلى جانب دون آخر، ولم تطمس حقيقتها على حساب حقائق أخرى، ولم تخنق عقيدة لتعيش عقيدة أخرى. وإنما احتفظت بالتوازن التام بين العقائد المختلفة وأعطت كل حقيقة حقها. فلم تمجد النعمة والإيمان وتزدرِ بالجهاد والأعمال أو العكس، وإنما أبقت على كل عقيدة في وضعها الطبيعي، ومسارها السوي، فأطلقت نداءً مدوياً لا زال صداه يرن في أرجاء المسكونة، إنه لا خلاص إلا بالإيمان بدم يسوع المسيح الذي سفكه عنا كفارة وفداء، وأعطانا بركاته من غفران وتبرير وتطهير وتحرير وتقديس بمحض النعمة المجانية، من فيض محبته اللانهائية كقول الكتاب "بالنعمة أنتم مخلَّصون بالإيمان وذلك ليس منكم هو عطية الله" (أف8:2).

لذلك علمتنا الكنيسة أن نصلي قائلين: "وبأعمالي ليس لي خلاص"

(الأجبية - صلاة نصف الليل – قطعة الخدمة الثالثة).


ولقد قال القديس يوحنا ذهبي الفم: "إننا لا نتبرر بالأعمال بل بالنعمة"

(N.P.F. 1st ser. Vol. XII p. 33)


وما أروع ما كتبه قداسة البابا شنوده الثالث في هذا الصد إذ قال:

[لا يوجد خلاص إلا بدم المسيح وجميع الأعمال الصالحة مهما سمت، مهما علت، مهما كملت، لا يمكن أن تخلص الإنسان بدون دم المسيح... إن الأعمال الصالحة وحدها لا يمكن أن تخلص الإنسان بدون الإيمان بدم المسيح وإلا كان الوثنيون ذو الأعمال الصالحة يُخلَّصون بأعمالهم!! حاشا.]

(الخلاص في المفهوم الأرثوذكسي – قداسة البابا شنوده الثالث ص23،24)


هذا هو رأي الكنيسة عن أهمية الإيمان في خطة الخلاص ولكنها لم تهمل الجانب الآخر وهو أهمية الأعمال الصالحة في حياة الإيمان. فأبرزت أهمية دور الإنسان في طلب الخلاص بقلب نادم تائب، عازم على حياة تمجد اسم الله بالسلوك اللائق بالمؤمنين، في جهاد ضد الجسد والعالم والخطية والشيطان كما قال الكتاب "ولنحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمله الرب يسوع" (عبر1:12-2).


ومن الأقوال المأثورة لقداسة البابا شنوده الثالث قوله:

[الأعمال الصالحة لازمة للخلاص، وعدم وجودها يدل على أن الإيمان ميت وعلى أنه لا ثمر له. ولكن الأعمال الصالحة وحدها لا تكفي للخلاص بدون الإيمان وبدون استحقاق دم المسيح]

(الخلاص في المفهوم الأرثوذكسي – قداسة البابا شنوده الثالث ص58)

وهكذا نرى التعادلية المتزنة بين الإيمان والأعمال في خطة الخلاص.


مفهوم النعمة والإيمان، الجهاد والأعمال، أمر جوهري في حياة المؤمن، فينبغي أن يتضح بكل جلاء حتى تعم الفائدة، لذلك سوف أعالج هذا الموضوع من زوايا متعددة الجوانب.



بذار وثمار

البذرة الحية إذا دفنت في الأرض، ونالت سقيها، فلابد وأن تعطي ثمارها. وما قيمة البذار إن لم نجنِ منها الثمار الشهية؟ فالنعمة هي بذار الخلاص.

والإيمان هو فعل القبول لهذه البذرة في تربة الأرض القلبية. والجهاد هو مداومة الري والسقي.

وأعمال البر الصالحة، والفضائل، ما هي إلا الثمار الناضجة نتاج لكل هذه العوامل مجتمعة.

ولقد عبر قداسة البابا شنوده الثالث عن هذه الحقيقية بقوله:

[ الأعمال الصالحة هي ثمرة للإيمان، وبرهان على وجود الإيمان وبها نكمل الإيمان.]

(الخلاص في المفهوم الأرثوذكسي – قداسة البابا شنوده الثالث ص23،24)



أساس وبناء

يدرك المهندس المعماري البديهيات الأولى لتشييد العمارة، إذ ينبغي أن تشتمل على جزئين هامين هما، الأساس، والبناء فبدون الأساس ما ارتفع البناء، وبدون البناء ما أفاد الأساس شيئاً.

والأساس كما وضح معلمنا بولس هو السيد المسيح بلا جدال إذ قال: "لا أحد يستطيع أن يضع أساساً آخر غير الذي وضع الذي هو يسوع المسيح" (1كو11:3).

والبناء هو الأعمال الصالحة المبنية عليه "إن كان أحد يبني على هذا الأساس ... فعمل كل واحد سيصير ظاهراً" (1كو12:3،13).

فالأساس إذن في حياة المؤمن هو قبول الرب يسوع، صخر الدهور، في القلب، وهذا هو مفهوم الإيمان. والأعمال الصالحة هي كل ما يقوم به المؤمن على هذا الأساس. فلا أعمال بدون إيمان ولا إيمان بدون أعمال.



إيفاء ووفاء

"الإيفاء" هو تسديد الدين.

و"الوفاء" هو حفظ العهد.

إن ما فعله رب المجد يسوع على الصليب هو إيفاء العدل الإلهي حقه، وبهذا سدد الدين الذي علينا بدم نفسه. وهذا أصدق دليل على محبته الأبدية التي بها أحبنا فأدام لنا الرحمة (أر3:31) وعندما تسلط أشعة هذه المحبة على قلب إنسان تجذبه بالحب إليها لهذا قال يوحنا الحبيب "نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً" (1يو19:4) ومن يحب يحفظ عهد الوفاء "إن أحبني أحد يحفظ كلامي" (يو23:14).

إن القطيع الذي يشعر بحب راعيه الذي يربضه في المراعي الخضر، ويورده إلى مياه الراحة، لا يستطيع إلا أن يتبعه كل الطريق.

فالإيفاء إذن هو عمل النعمة، والوفاء هو استجابة المؤمن لعمل النعمة.



امتياز والتزام

أحاط سياج من أسلاك شائكة جماعة من الأشقياء في انتظار مصيرهم الرهيب، وذات صباح مشرق طارت إليهم النعمة حاملة بين جناحي محبتها رسالة سلام. وإذ جهل الأشقياء سمو غايتها، ظنوها حمامة رعناء، فشبحوها بين الأرض والسماء، ومزقوا جبينها بإبر الشوك، وأدموا حنانها بطعن الحراب، أرادوا ذبحها ولم يعلموا أنهم أتموا قصدها، فبموتها صارت لهم حياة، وبأسرها صارت لهم حرية، وبدمائها صار لهم خلاص. فقد صدحت الذبيحة بسمفونية الفداء، رجاء المأسورين، وغفراناً للتائبين وامتيازاً للمؤمنين.

يا له من امتياز ثمين حقاً تقدمه النعمة لمقطوعي الرجاء. لقد مات البار ليخلص الأشرار، مجاناً، وبلا مقابل "متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح. الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله" (رو24:3،25).

فها النعمة تفتح أحضانها الحانية لمن يرتمي فيها، تفتح قلبها للابن الضال يوم يعود، لتطبع قبلات المحبة على جبينه. ها يدها تمتد إلى دموع الزانية تكفكفها، وإلى جراح الساقط بين اللصوص تضمدها.

كم كانت النعمة مترفقة بسفاح أورشليم عندما طمأنته على مصيره الأبدي فور توبته قائلة "اليوم تكون معي في الفردوس" ورافقته في رحلة الغروب البهيج إلى دار النعيم.

إنه بلا شك امتياز للبشرية المعذبة. امتياز لي ولك يا عزيزي، أن نحظى بهذا العطاء المجاني. ونثق في هذه الرحمة المخلصة، ونرتمي بكل ثقلنا على صدر من مات وافتدانا "لننال رحمة ونجد نعمة عوناً في حينه" (عب16:4).

هذا عن امتياز المؤمن، ويقابل الامتياز بالالتزام. فما هو التزام المؤمن أمام عطاء النعمة؟

يقيناً ليس هناك ثمن للنعمة، ولكن هناك أساسيات جوهرية لابد وأن تتوفر لمن يريد أن يتمتع بهذا الامتياز.

الطفل الرضيع لا يدفع ثمناً مقابل لبن أمه. ولكن لابد للرضيع أن يعبر عن احتياجه للرضاعة وجوعه لهذا العطاء. كما أنه لا يمكن أن يحصل على هذا الغذاء المحيي إن لم يفتح فمه ليتقبل ثدي أمه الحنون. ولا يستطيع الثدي المتفجر أن يسيل باللبن كالصنبور ما لم يقم الطفل بعملية الرضاعة. ولا أدل على انتفاع الوليد بلبن الأم من نموه المستمر.

هذا هو الحال مع المؤمن ليتمتع باللبن الروحي من ثدي المحبة الحانية (1كو2:3، 1بط2:2).

فالتعبير عن الجوع هو أنين التوبة "وطوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يُشبعون" (مت6:5).

وقبول الطفل لثدي أمه يمثل قبول المؤمن لدسم النعمة بالإيمان "بالنعمة أنتم مخلَّصون بالإيمان" (أف8:2).

وعملية الرضاعة تمثل جهد الإنسان المبذول استدراراً لمزيد من عطاء. والنمو الروحي المستمر في النعمة وفي كل عمل صالح هو العلامة الأكيدة للانتفاع بخلاص المسيح.

فامتياز الرضيع هو نيل اللبن من ثدي سخي.

والتزامه هو طلب الثدي وقبوله وارتضاعه لكي ينمو.

وبالمقابلة نرى أن امتياز المؤمن هو نيل عطاء نعمة سخية "يعطي الجميع بسخاء ولا يعير" (يع5:1).

أما التزامه فهو طلب هذه النعمة في توبة، وقبول عطائها بالإيمان، ومداومة الجهاد القانوني لينمو في القامة الروحية، ويثمر لحساب مجد الله.

هذا هو الموقف الأرثوذكسي المتزن، الذي يتكامل فيه تعليم الكتاب المقدس، دون جور على حق، أو انتقاص من عقيدة.

 

 

الفصل الثالث الدستور المقدس




 الحجر على المؤمنين
 التسيب الرهيب
 حرية ملتزمة
الدستور المقدس

من القضايا التي كانت موضوع نزاع خطير بين المعسكرين الغربيين قضية حق تفسير الكتاب المقدس أو حتى مجرد قراءته. وقد كان لكل معسكر فكره الذي ناقض فكر معارضه.

الحجر على المؤمنين

لقد اتخذت الكنيسة الكاثوليكية موقفاً عجيباً بازاء الكتاب المقدس إذ حرمت اقتناءه أو قراءته على عامة الشعب بقرار رسمي في مجمع تولوز المنعقد سنة 1299م ومنعت ترجمته إلى اللغات الحية (الكنيسة المتغربة – برودبنت 108 و 109) حتى لا يكون في متناول الناس، خوفاً من شبح التفسير الخاطئ. وبهذا أقامت حائطاً سميكاً بين الله والناس. إذ أن الله يتكلم إلى شعبه من خلال صفحات الكتاب المقدس، ولكنهم استطاعوا قطع هذه العلاقة المباشرة بين المؤمن والله. وحرموا الابن من أبيه فما كان على الابن التعيس إلا أن يتضور جوعاً، ليلتقط الأطعمة الفاسدة من زبالة الأفكار البشرية، والفلسفات الشيطانية، ليسد رمقه الفكري الجائع إلى المعرفة، ويروي ظمأه الروحي من المياه الملوثة.

التسيب الرهيب

وعلى النقيض من الموقف الكاثوليكي كان الموقف البروتستانتي الذي أتاح لكل إنسان أن يفسر الكتاب كيفما شاء، وبحسبما يرى، دون قيد أو شرط، مما أتاح الفرصة لظهور العديد من الآراء المتعارضة، باستخدام سلاح الآيات المبتورة، والتباس الفهم لبعض الآيات عسرة الفهم. فما كان إلا أن طعنوا أنفسهم، فأُريقت دماء الكثيرين في معركة المعرفة الضحلة.

وكانت النتيجة ظهور مئات المذاهب البروتستانتية، التي ما زال رحم الحرية الكاذبة يرمينا بها كل يوم. ولا أدل على ذلك من قول أحد مؤرخي البروتستانت أنفسهم:

[هنا نشأة الكنيسة البروتستانتية في التاريخ ...

فتحت صفحات الكتاب المقدس ليقرأها كل الناس ويفهموها في غير تضييق ولا إعنات وكان لهذه الحرية في البحث والدرس والتفكير آثارها اللاحقة في انقسام البروتستانتية شيعاً وطوائف.]

(عشرون قرناً – حبيب سعيد – ص179)



حرية ملتزمة

أما عن موقف الكنيسة الأرثوذكسية من الكتاب المقدس فموقف مشرف وحكيم للغاية. فقد تُرجم الكتاب المقدس من اللغات الأصلية العبرية واليونانية إلى اللغة القبطية، يوم أن كانت هي لغة أرض مصر. وما أن سادت اللغة العربية حتى ترجموا أسفار الكتاب المقدس إليها، وأشهر هذه الترجمات ما قام بها (هبة الله ابن العسال سنة 1250م) إذ قام بترجمة الكتاب المقدس من القبطية إلى العربية.

(قاموس الكتاب المقدس – الطبعة الثانية ص771)

ولقد اهتمت الكنيسة القبطية بأن يعي شعبها الكتاب المقدس وعياً كاملاً. فرتبت في قراءاتها أن يقرأ الكتاب المقدس علي مدار السنة، بل في أسبوع الآلام كان الكتاب المقدس يقرأ بعهديه، ولازال إلى الآن سفر الرؤيا بأكمله يقرأ في ليلة السبت السابق لعيد القيامة.

والكنيسة القبطية الأرثوذكسية تشجع أبناءها على اقتناء الكتاب المقدس، وقراءته، ودراسته، والتأمل فيه، ليكون للمؤمن غذاءً وزاداً في برية الحياة، وليكن له سراجاً ونوراً لسبيله (مز105:119).

ومن الثابت أن الكتاب المقدس كان يمثل العمود الفقري في عظات وكتابات آباء الكنيسة، حتى قيل أنه لو فُقد الكتاب المقدس لاستطعنا أن نجمعه آية آية من أقوال الآباء.

الكنيسة القبطية الأرثوذكسية إذاً تهتم اهتماماً بالغاً بنشر الكتاب المقدس، ومن أجل هذه الغاية وضعت طِلبة في صلوات القداس إذ يقول الشماس: {صلوا من أجل - انتشار - الإنجيل المقدس} (أوشية الإنجيل).

وشجعت المؤمنين على أن تسكن فيهم كلمة المسيح بغنى (كو11:3).

وكفلت لهم حرية التفكير والتأمل، ولكن بطريقة تضمن سلامة التعليم، ووحدته، وذلك بالالتزام بالفكر الآبائي وما كتبه القديسون.

وهكذا أتاحت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لكل فكر، ولكل فرد، حرية الحركة في إطار الفهم المتعمق، ومن منطلق الفكر السليم دون انحراف في التعليم، ودون شطط وراء آراء شخصية، وفلسفات مستحدثة، واجتهادات عقلية، وتأويلات ملتوية، وتحميل النص فوق ما تحتمل، أو الإنقاص من الحق الإلهي.

 

الفصل الرابع كواكب الدهور



تجاوز المدى
إهدار كرامة
إكرام للمسيح
مفهوم الشفاعة
كواكب الدهور



قضية إكرام القديسين من القضايا التي شغلت التاريخ، وانقسم بازائها الفكر شيعا. وقد أخذ كل من المعسكرين الغربيين موقفاً مناقضاً.



تجاوز المدى

لقد أكرمت الكنيسة الكاثوليكية القديسين إكراماً زائداً بلغ حد العبادة (اللاهوت الأدبي – الأب بطرس غوري - جزء 1 ص 329) وفي إكرامهم للعذراء مريم نادوا بأنها قد ولدت من أبويها بلا دنس (علم اللاهوت – إيغومانس ميخائيل مينا - جزء 3 ص 556) وما ذلك إلا زيادة في إكرامها، في حين أن العذراء نفسها تقول في تسبحتها "تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي" (لو46:1) فأوضحت بذلك انتفاعها بخلاص المسيح، ووضعت نفسها مع البشرية تحت دم الصليب المتفجر من الجنب الطعين كفارة وفداء.

ولقد بلغ أمر مغالاتهم في إكرام القديسين أنهم اختلقوا مبدءاً جديداً لم يعرفه الحق الكتابي على الإطلاق، وهو عقيدة "زوائد فضائل القديسين" ومؤداها أن القديسين قد صنعوا البر، كل البر، بل وأكثر من البر المطلوب منهم، وهذا البر الفائض يمكن أن يجبر نقص من يتشفع بهم بإذن من بابا روما (علم اللاهوت - إيغومانس ميخائيل مينا - جزء 3 ص 539).

فيضيف القديسون نسبة من رصيدهم الزائد إلى رصيد المتشفع بهم الناقص. وبهذا كسروا كلام المسيح القائل: "متى فعلتم كل ما أُمرتم به قولوا أننا عبيد بطالون لأننا عملنا ما كان يجب علينا" (لو10:17).

ومن هذا نستطيع أن نرى الفكر الكاثوليكي قد جاوز المدى وجار على الحق الكتابي، مما فجر غيظ المعسكر البروتستانتي لينشط في اتجاه مضاد.


إهدار الكرامة

بدافع من الغيرة على الحق الكتابي عارض البروتستانت عقيدة إكرام القديسين وشفاعتهم، ولكن بطريقة متعنتة، فضربوا بالحق الكتابي عرض الحائط، وأهالوا التراب على القيمة الروحية في إكرام القديسين.

هم يكرمون المؤمن طالما هو حي على الأرض، ويطلبون صلواته. أما إذا انتقل المؤمن من هذا العالم، يتغير الموقف، إذ يجردونه من ثوب الكرامة الذي كان يلتحف به في حياته، ويُسقطون حقه في استكمال طلباته وصلواته كما كان يفعل في حياته. والحجة أنه قد انتقل من العالم!!

وكأنه بالموت صار نسياً منسياً، أو صار إنساناً أنانياً وقد ترك قلب المحبة في قبر عظامه في وادي الموت.

والبعض يحاول أن يؤكد الزعم بأن الذين ينتقلون من العالم لا يذكرون الأرض بما عليها، لاستغراقهم في رؤية المسيح !! وقد غاب عن بالهم أن المنتقلين لم يدلفوا بعد إلى سماء المجد، ولم يلبسوا الأجساد النورانية بعد، ولم يصيروا مثل المسيح بعد، حتى يعرفوه كما عرفوا، ويبتلعوا في جماله.

ولقد فاتهم أيضاً أن نفوس الذين قتلوا من أجل كلمة الله، ومن أجل الشهادة قد صرخوا بصوت عظيم وهم تحت المذبح عندما فُتح الختم الخامس قائلين: "حتى متى أيها السيد القدوس والحق لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض فقيل لهم أن يستريحوا زماناً يسيراً أيضاً حتى يكمل العبيد رفقائهم واخوتهم أيضاً العتيدون أن يُقتلوا مثلهم" (رؤ9:6-11).

فهل اُبتلع هؤلاء في جمال المسيح؟

وهل نسي هؤلاء اخوتهم الساكنين على الأرض؟

وماذا قيل لهم عن اخوتهم العتيدين أن يُقتلوا مثلهم؟

الأمر إذاً يحتاج إلى مراجعة حسابات لتصحيح المسار.

ولعل البروتستانت في غضبة شاولية، عندما رأوا تعلق الكاثوليك بالقديسين إلى تلك الدرجة، قد مالوا إلى الوراء فداسوا رؤوس القديسين، وأهدروا كرامتهم. فكان كمن عالج خطأ بخطأ وداووا المرض بالداء، أو كمن قفز من حفرة فهوى في بئر عميقة!!



إكرام للمسيح

كنيستنا القبطية الأرثوذكسية تكرم القديسين، لأن هذه هي مشيئة الآب، إذ قال رب المجد يسوع "إن كان أحد يخدمني يكرمه الآب" (يو26:12).

ونحن لا نكرم القديسين الأحياء فحسب، كما هو واضح مما سجله كاتب سفر أعمال الرسل قائلاً: "فأكرمنا هؤلاء إكرامات كثيرة" (أع10:28)، بل نكرم أيضاً القديسين الذين انتقلوا "لأن الله ليس إله أموات بل إله أحياء" (مت32:22).

والكنيسة ترى أن في إكرام القديسين، إكرام للرب يسوع المسيح، وإكرام للآب أيضاً، إذ قال رب المجد "من يقبلكم يقبلني ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني" (مت40:10).

كما نؤمن أن القديسين الذين انتقلوا لا زالوا يواصلون صلواتهم من أجل الكنيسة المجاهدة التي كانوا فيها أعضاء، ومازالوا ينتمون إليها، لأنها والكنيسة المنتصرة التي انضموا إليها جسد واحد. فما انفصلت علاقتهم بالانتقال. لهذا يقول كاتب سفر الرؤيا "وجاء ملاك آخر ووقف عند المذبح ومعه مبخرة من ذهب وأعطى بخوراً كثيراً لكي يقدمه مع صلوات القديسين جميعهم" (رؤ3:8).

ولكن مع شدة إكرامها للقديسين الذين رقدوا في الإيمان بالمسيح، إلا أنها التزمت برفع كرامة المسيح فوق كرامة جميع القديسين، بما فيهم العذراء القديسة مريم.



مفهوم الشفاعة

كنيستنا إذن تؤمن بشفاعة القديسين، وشفاعة العذراء مريم ولكنها حددت مفهوم شفاعتهم، حتى لا تختلط مع شفاعة السيد المسيح. فشفاعة القديسين ما هي إلا طلبات توسلية، لكنها لا تصل إلى حد الكفارة مهما كانت، بخلاف شفاعة السيد المسيح فهي شفاعة كفارية على حساب دمه الثمين. فهو إذن الشفيع الوحيد بالكفارة (1يو1:2). والمخلص الأوحد بلا منازع، فليس بأحد غيره الخلاص (أع12:4).

أما شفاعة القديسين فهي شركة حب، والتزام وحدانية روح، وحتمية رباط لا ينفصل.

 

الفصل الخامس النصل والغمد



سيف مسلول
عقد مفروط
سيف بيد قديسين
تحذير شديد
اغتصاب خلسة
سلاح الحرم
النصل والغمد



· النصل هو سيف السلطان الكنسي.

· والغمد هو قراب الحب القلبي.



ولقد استغل النصل استغلالاً منحرفاً في طعنات هوجاء شطرت الكنيسة، وفجرت الموقف إلى المعارك الدامية التي خاضها التاريخ الكنسي على ممر الأجيال.



سيف مسلول

لقد أشهر باباوات روما سيف السلطان الكهنوتي، في وجه كل من خالف رأيهم، وأهدروا دماء كل من وقف في طريقهم. لقد نسوا أو تناسوا وصية الرب لبطرس "رد سيفك إلى مكانه لأن الذين يأخذون بالسيف بالسيف يهلكون" (مت52:26).

فلقد أصبح السيف لغة التخاطب، والحرمان حربة مصوبة إلى قلب الحرية، (والقطع) شبح مرعب لكتم الأنفاس. وضاعت معالم المحبة، وباد من القلب نبض الحنان، وتيتم الحق الإلهي، وساد في البيعة شريعة الغاب، وصارت الزعامة للأسود، والسحق للحملان.

وبالاستخدام الخاطئ لسلطان الكهنوت قامت كنيسة روما قديماً في مجمع خلقيدونية غير الشرعي المنعقد سنة 451م بقطع القديس ديسقورس بابا الإسكندرية، وقطع الكنيسة القبطية من شركة الإيمان. ولا زالت الكنيسة الأرثوذكسية مشبوحة في دهاليز الفاتيكان على صليبي ابني رصفة ابنة آية (راجع سفر صموئيل الثاني الإصحاح 21) وملخص القصة:

(أن شاول الملك نقض العهد الذي أبرمه يشوع ابن نون مع الجبعونيين الساكنين في وسطهم وأهلك شاول منهم الكثيرين فأرسل الرب جوعاً على أرض إسرائيل في زمان داود الملك انتقاماً لهذا الشعب المسكين وعندما أراد داود أن يكفر عن هذا الذنب سأل الجبعونيين، فلم يطلبوا ذهباً ولا فضة بل طلبوا أن يُصلب سبعة رجال من نسل شاول عوضاً عمن قتل منهم للتكفير. واستجاب داود لطلبهم، وأخذ من بين من أخذ ولدين لامرأة تُدعى رصفة التي افترشت المسوح على صخرة مقابلة لتزج عن الجثث السبعة الطيور الجارحة والوحوش المفترسة، منذ وقت حصاد الشعير حتى استجاب الرب وسكب من السماء ماءً لري الأرض كي تعطي ثمرها وتزول المجاعة).

ولا زالت رصفة التي تمثل ضمير المسيحية المكلوم تفترش مسوح الأسى على صخرة الرجاء، منتظرة انصباب مياه النعمة من السماء، لتذيب الأحقاد، وتزيل أكوام الجفاء، فيكتشف الجميع أنهم يقفون على أرض معركة واحدة، فعوض الطعن بالنصال في قلب بعضنا البعض تتوحد السواعد للفتك بالعدو المشترك الذي يريد أن يفترس عروس المسيح.

وهكذا استغل السلطان الكنسي أسوأ استغلال، وما الذي دفع بالبروتستانتية إلى الوجود سوى رقصة مجنونة أداها البابا ليون العاشر بابا روما ملوحاً برمح في الهواء. والرمح هو السلطان الكهنوتي الذي أصدر به غفراناً عاماً يباع على هيئة صكوك الغفران، وغنى له الأساقفة، وزمر له الكهنة، وتمادى الثمل في نشوته.

وعندما ثار الراهب مارتن لوثر على هذا الانحراف ضد صكوك الغفران، أشهر في وجهه سيف الحرمان، فما كان منه إلا أن انقض في ثورته، ضارباً بالقوانين الكنسية عرض الحائط، وقبض على معصم البابوية، وانتزع هذا السيف المشهر، وطوح به في وادي العدم.



عقد مفروط

بعد أن أطاح مارتن لوثر بالسلطان الكنسي انفرط عقد الكنيسة الغربية، واندثرت حباته لتصبح بذاراً مرة، أثمرت هذا الحصاد الرهيب من المذاهب المنشقة.

وفات على لوثر أهمية حيازة الكنيسة لسلاح السلطان الكنسي في معركة الحق، للحفاظ على المقدسات، ولبتر الأغصان الجافة، واستئصال الخلايا السرطانية.

فلو أنه أسئ استخدام السيف لطعن الحق نفسه، لا يكون هذا مدعاة للإطاحة بالسلاح، وإنما كان الأجدر أن تكون هناك عملية تصحيح للأوضاع لإعادة الأمور إلى نصابها، لتسير الماء في مجاريها، ويلتئم جرح الحق الطعين، ويواصل الركب مسيرته المقدسة. ولكن لوثر كما يقول أحد مؤرخي البروتستانت قد ساقته المعركة سوقاً إلى الشطط الذي آل إليه أمره فيما بعد. (عشرون قرناً – حبيب سعيد ص 176).



سيف بيد القديسين

ما من شك أن السيد المسيح قد أعطى للكنيسة سلطاناً فائقاً بقوله "كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء" (مت18:18) على أن هذا السلطان ليس سلطاناً مطلقاً بلا حدود ولا قيود، وإلا خلق من قادة الكنيسة (أساقفتها) حكاماً مستبدين، وجعل الكهنوت دكتاتورية متسلطة، وأردى الشعب عبيداً مذلولين. في حين أن الأمر على العكس من ذلك تماماً، فإن الرب الذي أعطى هذا السلطان الفائق هو نفسه الذي قال لمن وهبهم إياه "أنتم تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلطون عليهم، فلا يكون هكذا فيكم، بل من أراد أن يكون فيكم عظيماً فليكن لكم خادماً. ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبداً." (مت25:20-27)؟

وضرب لهم أروع الأمثلة بنفسه، إذ عقب على هذا الكلام بقوله: "كما أن ابن الإنسان لم يأت ليُخدَم بل ليَخدِم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (مت28:20).

السلطان الكنسي حقاً سيف بتار، وسلاح رهيب إذا أسئ استخدامه، ولذلك فالسيد المسيح عندما أعطى هذا السلطان إنما أعطاه لجماعة قديسين، سهر الليل كله في الصلاة ليختارهم كي يكونوا جديرين بحمل السلاح، وإلا فتكوا بالنفوس البريئة، وأثكلوا عروس المسيح.



تحذير شديد

قد يندهش البعض من التناقض الظاهري بين وصية السيد المسيح للتلاميذ عشية جسثيماني بأن يشتروا سيفاً، وبين انتهاره لبطرس عندما استخدم هذا السيف، وبتر به أذن عبد رئيس الكهنة قائلاً: "اجعل سيفك في الغمد" (يو11:18).

ولكن الأمر يتضح جلياً، ويزول الاندهاش، إذا علمنا أن السيف يشير إلى السلطان المعطى للكنيسة، والمحفوظ في غمد المحبة، والذي لا يُستخدم للدفاع عن النفس، ولا يُشهر بطريقة متهورة، ولا يُستغل في إهلاك النفوس.

من أجل هذه الاعتبارات وغيرها حرص الآباء الرسل على أن يضعوا العديد من التحفظات، والتحذيرات الشديدة للأساقفة، وكل من عندهم هذا السلطان، حتى لا يسيئوا استخدامه، وإليك بعضاً منها كما ورد في الدسقولية (أو تعاليم الرسل).

X بخصوص إتاحة الفرصة للمتهم أن يدافع عن نفسه: فلربما أسيء فهمه، أو نسج عنكبوت الأحقاد والشائعات خيوطاً كثيفة لطمس الحق. لذلك أوجبت الدسقولية إتاحة الفرصة للمتهم ليقف على أرض أمينة في ساحة العدالة، ليعبر عن نفسه، ويحتج عما قُذف به، فقالت:

[لأنكم – أيها الأساقفة – إذا سمعتم كلام الفريق الواحد وحجته في دعواه التي يدعيها، وأوجبتم قضيته، وقطعتم الحكم بسرعة، وليس الفريق الآخر (المتهم) حاضراً معكم، ليجيب عن نفسه، ويحتج عما قُذف به، فإنكم تكونون مستحقين للقتل الذي حكمتم به]

(الدسقولية - الباب الثامن)



- بخصوص عدم التسرع في الحكم:

كان بطرس في البستان متسرعاً في استلال السيف، وفي لمح البصر هوى على أذن عبد رئيس الكهنة فقطعها، فما كان من السيد المسيح إلا أن أعادها إلى مكانها، وأعاد سيف بطرس إلى غمده، ليعلمه التمهل وعدم التسرع.

ولقد نبر الآباء الرسل في قوانينهم على أهمية هذا الأمر، فقالوا:

[لا تكن متسرعاً إلى "القطع"، ولا جسوراً، ولا تسارع بالمنشار الكبير الأسنان، بل ابدأ بما ينقي وينظف، وأخرج الوسخ بلطف، لكيما تخرج الفساد الذي هو علة الجرح وسبب الأوجاع ليبرأ الجسم كله من المرض.]

(الدسقولية - الباب الثامن)

- بخصوص استبعاد الدوافع الشخصية أو حب إذلال النفوس:

أحياناً تلعب الأغراض الشخصية دوراً غير شريف في معركة الحق، فيجنب الحق، ويجنح الحكم. ما أرهب هذا الوضع، فأصدر الآباء الرسل قانوناً يحذر من هذا الانحراف، يقول:

[فإن هو – الأسقف – ربط وحرم بغير حق طلباً للتشفي من الناس، والتماس ذلهم وخضوعهم له، فليكن هو المربوط والمحروم.]

(مقال لنظير جيد "قداسة البابا شنوده" في 26 يونية 1952م)

- عقوبة من يصدر حكماً ظالماً. أو يستخدم سلطان الحل والربط استغلالاً سيئاً:

[وأسقف يوجب القضية على أحد ظلماً، يخرج الحكم من فيه على نفسه]

(مقال لنظير جيد "قداسة البابا شنوده" في 26 يونية 1952م)



وأيضاً:

[فأنتم الآن اعرفوا عقوبة كل الخطايا المختلفة لئلا يكون منكم ظلم لأحد، فتحركوا رجز الله عليكم بحكم الظلم. لأن الحكم الذي تحكمون به، يحكم الله به عليكم.]

(الدسقولية – الباب الثامن)


وأيضاً:

[إن أوجبتم القضية على أحد ظلماً، فاعلموا أن الذي يخرج من أفواهكم يرتد على أنفسكم.]

(الدسقولية – الباب الثامن)

السلطان الكنسي إذن سلاح عجيب، هو سيف الحق مسلولاً فإن استخدمته يد ظالمة، استدار ليقطعها، دون المساس بالمظلوم. ومن هنا كانت خطورته البالغة.


اغتصاب خلسة

وقد يحدث أن يدخل خلسة إلى الكنيسة، من يغتصب السيف دون استحقاق، ويشيع الإرهاب في القطيع الوادع، ويذبح الحملان، ويتحالف مع الشيطان، لتبديد رعية المسيح، كما حدث مع ديوتريفوس، الذي كتب عنه يوحنا الرسول:

"ولكن ديوتريفوس الذي يحب أن يكون الأول بينهم لا يقبلنا. واذ هو غير مكتف بهذه لا يقبل الاخوة ويمنع أيضاً الذين يريدون (أن ينضموا) ويطردهم من الكنيسة." (3يو9،10)



فماذا يكون التصرف في مثل هذه الحالة؟

هل نطعن في السلطان الكنسي؟

وهل نحطم هذا السلاح؟



وهل نطوح به في وادي العدم، كما فعل لوثر مع البابوية؟ حاشا. فلا يصح أن تحطم الأقلام، لأن كاتباً أساء استخدام قلمه. وليس من المعقول أن ندفن الأطباء في الجحيم لأن طبيباً أساء استخدام مهنته.

هكذا لا يجوز أن نهدر دم السلطان الكنسي بسبب دخيل أساء استغلاله.

وخير للمظلوم أن يكون شهيداً من أجل الحق عوضاً عن أن ينقض قواعد أرساها السيد المسيح. عالماً أن هذا الحرم الظالم لا يمس مصيره الأبدي. فقد قال قداسة البابا الأنبا شنوده الثالث:

[إن الغفران والإمساك لا يتعلق بالمستقبل الأبدي، ولكنها فقط لسياسة الكنيسة على الأرض.]

(رسالة الكنيسة–إصدار كنيسة الملاك بدمنهور–العدد3 السنة4 أكتوبر1966)

هذا هو رأي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في قضية السلاح الرهيب.



سلاح الحرم

أنقل إليك مقالاً لقداسة البابا شنوده الثالث قبل أن ينتظم في سلك الرهبنة يوضح بكل جلاء مفهوم الكنيسة في سلاح الحرم، والمقال تحت عنوان:

هل يستخدم البطريرك سلاح الحرم ضد المعارضين؟ (مقال في 26 يونيو سنة 1952)

كنت أزور يوماً إحدى الكنائس القديمة، فوجدت إعلاناً معلقاً [بالحرم من فم الثالوث الأقدس .. لكل من يكتب شيئاً على الحائط] ونظرت فإذ بكتابات كثيرة تتلخص في عبارة [أذكر يارب عبدك فلان] وكان واقفاً إلى جانبي أحد الآباء الكهنة، فقلت له في استعجاب "ما هذا الكلام يا أبانا؟ هل تظن هذا الحرم صادراً حقاً من فم الثالوث الأقدس؟ وهل يعقل أن السيد المسيح يقطع من كنيسته شخصاً كتب في براءة قلب وبساطة إيمان صلاة على جدار الكنيسة معتقداً أن طلبته ستجاب من أجل بركة المكان المقدس…؟!"



ويستمر في المقال قائلاً:

هل يعقل أن السيد المسيح يحرم شخصاً لهذا وهو الذي جاء ليخلص ما قد هلك. والذي قال في صراحة: "ما جئت لأدين العالم بل لأخلص العالم".

وأكمل حديثه في المقال:

وفي يوم آخر أتاني شاب وديع طيب القلب متألماً من معاملة مطران في إحدى إيبارشيات الوجه القبلي، قال إن هذا المطران أراد أن يخرج الشعب مبكراً في ليلة العيد فصلى القداس في أقل من ربع ساعة فلما ذهب إليه هذا الشاب ليعاتبه تضايق نيافة المطران وحرم هذا الشاب!!

سمعت هذه الشكوى فاضطربت روحي في داخلي: ليس المطران معصوماً من الخطأ طبعاً "ففي أشياء كثيرة نعثر جميعاً" كما يقول يعقوب الرسول. فإذا أخطأ المطران هل نتملقه و نوافقه على الخطأ فتنحدر روحه الغالية إلى الجحيم! أم يقوم واحد بتنبيهه حتى لا يهلك؟ وإن فعل شخص هذا الجميل في المطران أيكون إذن قد هرطق أو كفر حتى يُحرم من كنيسة الله؟! وهل يظن نيافة المطران أنه قد أُعطي سلطان الحِل والربط لكي يستخدمه للحفاظ على كرامة خاصة وكبرياء وذاتية؟!

إذن فليسمع نيافته ذلك القانون الكنسي الخطير:

[وأسقف يوجب القضية على أحد ظلماً، يخرج الحكم من فيه على نفسه]

(الدسقولية - الباب الخامس)


ويسترسل قائلاً:

وفي مرة ثالثة قرأت على أحد الكتب هذه العبارة المألوفة:

[وقفاً مؤبداً وحبساً مخلداً على كنيسة ... والذي يتجاسر ويخرج هذا الكتاب من محله يكون محروماً من فم الآباء الرسل القديسين والآباء البطاركة المكرمين، ومن فم القديس ... والعجيب أن الكتاب – عندما قرأت عليه هذه العبارة – لم يكن داخل الكنيسة .. فقلت في نفسي:

هل يُعقل أن الآباء الرسل والبطاركة القديسين يحرمون شخصاً لسبب كهذا السبب..؟!

ويواصل الحديث قائلاً:

هل تُحرم نفس مات المسيح لأجلها، من أجل كتاب؟!

واحد من أمرين: إما أن النفوس أصبحت رخيصة في هذه الأيام. وإما أن عبارة الحرم هي التي أصبحت رخيصة؟!


ويكمل قائلاً:

وفي مرة رابعة كتب أحد الأتقياء مقالاً تعرض فيه لخطأ واضح وقع فيه أحد الأساقفة، فتهامس البعض قائلين "ألعل الأسقف سيحرمه" وسمعت هذا فاندهشت وقلت لهم: لا يوجد يا اخوتي في الكتاب المقدس ولا في تعاليم الرسل وقوانين الكنيسة بند واحد يسمح للأسقف بأن يحرم في حالة كهذه .. بل هناك قانون يقول:

[فإن هو ربط وحرم بغير حق طلباً للتشفي من الناس والتماس ذلهم وخضوعهم له فليكن هو المربوط والمحروم]

وقانون الكنيسة يبيح في هذه الحالة أن يشكو الناس الأسقف إلى مطرانه أو بطريركه ولا يدعوه يتعدى على خراف المسيح التي اشتراها بدمه.

ويجمل الموضوع قائلاً:

لكل ذلك أحب أن أقول أن الأسقف ليس حراً في أن يحرم من يشاء، وإنما لا يحرم إنسان إلا في حالات شاذة يرى فيها خطراً على الكنيسة أو على الإيمان. وللأسقف أن يعاقب المخطئين، وأنواع العقاب متعددة، أما الحرم فهو آخر وأقسى حل، ويستخدم حينما تفشل كل حيلة الأسقف، وتعاليم الرسل تقول صراحة:

[لا تكن مسرعاً إلى القطع ولا جسوراً، ولا تسارع إلى المنشار الكبير الأسنان. بل ابدأ بما ينقي وينظف، وأخرج الوسخ بلطف لكيما تخرج الفساد الذي هو علة الجرح]

(الدسقولية – الباب الثامن)

ويختم مقاله قائلاً:

وتعتبر الكنيسة أن الأسقف الذي يظلم شخصاً ويحرمه بدون وجه حق، هو قاتل نفس، فتقول في وضوح.

[من يخرج البريء كأنه مذنب فهو أشر من قاتل الإنسان]

(الدسقولية – الباب الخامس)

نظير جيد

[قداسة البابا الأنبا شنوده الثالث]

الفصل السادس قنوات فائضة



ثلوج متجمدة
ردود الفعل
شيكات النعمة
الحلقة المفقودة
قنوات فائضة

لقد حفر رب المجد يسوع قنوات سبع، لتنساب فيها مياه نهر النعمة الفائضة، محملة بطمي البركات المخصبة، لينهل منها المؤمنون بسر إيماني، لا تستسيغه العقول الغلفاء، ولا تدركه القلوب غير المختونة.

هذه القنوات السبع، هي أسرار الكنيسة السبعة.

ثلوج متجمدة

لقد احتفظت الكنيسة الكاثوليكية بقدسية هذه الأسرار، إلا أنها جمدت مياهها في قنواتها، حتى أصبح الاحتفال بها من باب الممارسة الروتينية، دون سيولة نعمة، أو انسكاب حياة، وإنما في جمود طقس، وشكلية عبادة.

ولقد سلكت مسالك عجيبة تختلف عما تسلمته الكنيسة الأولى عن الرسل. فحرمت المؤمنين من سريان نعمة دم المسيح في عروقهم إذ قصرت التناول على أقراص الفطير دون الدم. (راجع علم اللاهوت –إيغومانوس ميخائيل مينا – الجزء الثالث ص 564).

وثمة تعليم آخر وهو تأخير سر المسحة المقدسة إلى سن معينة. (نفس المرجع السابق ص562).

والأمر الغريب حقاً هو السماح للكهنة أن يعمدوا الجنين في بطن أمه. (نفس المرجع السابق ص 568)

أما الهوة السحيقة التي تردى فيها الكاثوليك، فهي قصر سر الكهنوت على المتبتلين، وتحريم الزواج على الإكليروس (المرجع السابق ص565)، خلافاً لما كان عليه رسل المسيح، فمعلمنا بولس الرسول يقول:

"ألعلنا ليس لنا سلطان أن نجول بأخت زوجة كباقي الرسل واخوة الرب وصفا (الذي هو بطرس)" (1كو5:9).

فلو وجد من هو نظير بولس الرسول في حب البتولية، إلا أن ذلك ليس في إمكان الجميع. فأصبح، بلا شك، هذا الشرط عبئاً ثقيلاً على كاهل معظم هذه الطغمة.



ردود الفعل

وفي اعتقادي أن هذا الأمر – أي حرمان الإكليروس من الزواج – لعب دوراً خطيراً في أعماق مارتن لوثر الكاهن الكاثوليكي، الذي كان يعاني من المحاربات الشديدة التي أوصلته إلى اليأس قبل ثورته والدليل على ذلك، أنه ما أن قام بالثورة على النظام الكاثوليكي حتى أعلن زواجه من الراهبة كاترين.

(حياة لوثر – موريسون ص 108).

فلو كان التبتل أمراً محبباً لقلب لوثر، لفضل أن يظل كبولس الرسول بتولاً محافظاً على نذره. أما وأنه تزوج وأنجب ستة أولاد (حياة لوثر – ص 114) لدليل واضح على ما كان يختلج في نفسه نتيجة للقيد الحديدي الذي كان يكبله.

فكان للمغالاة الكاثوليكية ردود فعل عكسية من الجانب البروتستانتي الذي طمس هذه القنوات لجمود مياهها، وعوض أن يشيعوا فيها حرارة الروح لتعود سيولتها وعذوبتها، ألقوا فيها الأحجار الغليظة، وردموها بالتراب، ومحوا من الخريطة معالمها.

وإن كانوا قد عادوا فنبشوا من جديد، ولكنهم حفروا مجريين غير شرعيين، أطلقوا عليهما "رسم المعمودية"، "وفريضة المائدة" ولا تسيل منهما مياه على الإطلاق، إذ أنهما ليسا سرين يفيضان بأية نعمة، وإنما هما مجرد رمزين للذكرى لا أكثر ولا أقل.



شيكات النعمة

أما كنيستنا الخالدة، فقد حفظت المسلمات المقدسة. وبينما هي تقدس الأسرار السبعة، على خلاف ما ذهب إليه البروتستانت، إلا أنها لا تعتبرها غايات في حد ذاتها، كما فعل الكاثوليك.

ولقد اعتبرت كنيستنا الأرثوذكسية الأسرار المقدسة، كأنها شيكات نعمة، على بنك السماء، مختومة بالدم، وموقع عليها بإمضاء الروح القدس، ليتسلم المؤمن بيد الإيمان كل ما يطلب من رصيد البركات، التي باركنا بها الله الآب، في شخص ابنه يسوع المسيح. (أف3:1).



الحلقة المفقودة:

هناك حلقة مفقودة بين الفكر الكاثوليكي، والفكر البروتستانتي فقد نادى البروتستانت بأن الخلاص هو بدم المسيح المهرق على الصليب مباشرة، ولا حاجة بعد إلى أسرار الكنيسة، لأنها بلا فائدة، وليس لها قيمة مطلقاً (الكنيسة المتغربة – برودبنت ص184) بل اعتبروها "اختراع دخل المسيحية من خليط بين الوثنية واليهودية والتعاليم الفلسفية" (نفس المرجع السابق ص 8).

في حين أن الفكر الكاثوليكي ذهب إلى أن أسرار الكنيسة هي كل شئ، وبدونها لا يحصل الإنسان على شئ، أما الصليب ودمه، فإنما كانا لمحو خطية آدم، مما دعى المعارضين (حسب تعبير أحدهم) "أن يدوسوا هذه الأسرار بأقدامهم" (نفس المرجع السابق ص 510).

وبين النقيضين يقف الفكر في حيرة ...

فإن صليب المسيح، بلا شك، هو سر الخلاص.

كما أن أسرار الكنيسة، بلا جدال، لازمة للخلاص.

فكيف يمكن التوفيق بين الفكرين المتعارضين؟

وهنا تعطي الكنيسة الأرثوذكسية الحل السليم لهذه المعادلة الصعبة. فالصليب هو الشمس الوضاءة بنور النعمة، وأسرار الكنيسة هي الأشعة التي تحمل نور الخلاص، وحرارة الروح إلى البشرية جمعاء.

فالأسرار الكنسية تستمد فعاليتها من قوة دم الصليب. دم الصليب إذن هو النعمة، والأسرار هي وسائط النعمة.

وهكذا قدمت الكنيسة الأرثوذكسية للمعسكرين المتعارضين فرصة لقاء على أرض فكر سليم.

 

الفصل السابع أنماط متباينة


الآلية الميكانيكية
الشخصية الكاريكاتيرية
الروحانية الناسكة
أنماط متباينة

يقدم لنا كل معسكر نمطاً مميزاً ونموذجاً مغايراً لشخصية الفرد وأسلوب العبادة. نحاول أن نستعرضها.



الآلية الميكانيكية

لقد ساد علي العبادة الكاثوليكية الطابع الآلي من فروض تؤدى، وطقوس تمارس، بطريقة ميكانيكية خالية من التفاعل الحيوي الخلاق. حتى التأديبات الروحية التي وضعت لإنهاض حياة التائب وتدريبه من خلال وسائط النعمة علي النمو الروحي، هذه التأديبات أو التدريبات أخذت طابع العقوبات فيؤديها الشخص كعقوبة مفروضة وليست كبلسان أو علاج لإمراض النفس.



الشخصية الكاريكاتيرية

في لون من ألوان فن الكاريكاتير يهتم الفنان أن يضخم الرأس أما بقية الجسم فشئ ضامر أسفل الرأس، كهيئة قزم يتدحرج على الأرض.

هذا هو الوضع الذي بلغ إليه البروتستانتي إذ اهتم اهتماماً بالغاً بالمعرفة، فركز علي الدرس والبحث والاستزادة من العلم فكانت الشخصية الكاريكاتيرية، ذات الرأس المتضخمة التي تموج بالمعرفة، في حين أن القامة الروحية ظلت ضامرة في حاجة إلى الرياضة والتمرين للنمو في القداسة وكل عمل صالح.



الروحانية الناسكة

علي خلاف الآلية الكاثوليكية، والعقلانية البروتستانتية، اتسمت العبادة الأرثوذكسية بالحياة النسكية، والمنهج الروحاني فعمرت الأديرة بالركب الساجدة، واستضاءت سماوات البراري بالكواكب اللامعة، نظير أنطونيوس، ومقاريوس، وباخوميوس ومئات الألوف ممن عاشوا الإنجيل وترجموا تعاليمه إلى روح وحياة وأشاعوا مناخاً روحياً حاراً ليس علي مستوى الكرازة النظرية فحسب، بل دخلوا بالتعاليم إلى معمل التجربة، وساحات التدريب ومغائر الاختبار، لتؤتى المعرفة نفعها، وتظهر ثمار القول في العمل.

ولم تقتصر النزعة الروحانية علي سكان البراري فحسب، بل سادت الروح النسكية الطبقة العلمانية، فلمعت شخصيات ملتزمة بالسلوك الكتابي، مثل المعلم إبراهيم الجوهري، رئيس مجلس الوزراء في عهد إبراهيم بك المملوكي (قصة الكنيسة القبطية – إيريس حبيب – الجزء الرابع ص232)، فقد أشتهر هذا الرجل بتنفيذ قول الكتاب "لا يغلبك الشر بل اغلب الشر بالخير." (رو21:12).

وهوذا سمعان الخراز الذي نقل جبل المقطم في عصر المعز لدين الله الفاطمي (قصة الكنيسة القبطية – إيريس حبيب – الجزء الرابع ص25،26)، هذا القديس قد نفذ حرفياً قول الكتاب "إن أعثرتك عينك فاقلعها والقها عنك" (مت9:18) ولو أن تصرفه هذا بقلع عينه (عندما نظر واشتهى امرأة) تصرف متطرف لأنه كان رجلاً بسيطاً إلا أن ذلك يكشف عن الروحانية الناسكة التي عاشتها الكنيسة.

ويعوزنا الوقت لو سردنا التاريخ لنزيح الستار عن قديسين سلكوا بحق الإنجيل مما يدلك علي اهتمام الكنيسة القبطية، ليس بمجرد التعاليم النظرية للإنجيل، بل أولت الناحية العملية كل اهتمام.

فلم يقتصر نداء الكنيسة القبطية علي التبرير فحسب، بل مارست حياة القداسة العملية، فلا خير في شجرة بدون ثمر، "فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتُلقى في النار." (مت19:7).

 

الفصل الثامن السياجات الحصينة



حفظة الأسوار
أساليب رهيبة
ناقضو السياج
زهور في بستان
السياجات الحصينة


ترتفع حول الكروم والبساتين الغناء سياجات عالية وأسوار حصينة، لكي تحمي الأشجار والأزهار والأثمار.

وإن أكبر عقوبة لكرم هي نزع سياجه وهدم أسواره حتى يصير خراباً، وهذا هو ما وضحه الرب بقوله "ماذا يُصنع لكرمي وأنا لم أفعله. لماذا إذ انتظرت أن يصنع عنباً، صنع عنباً ردياً. فالآن أُعرفكم ماذا أصنع بكرمي. أنزع سياجه فيصير للرعي، أهدم جدرانه فيصير للدوس. وأجعله خراباً" (أش4:5-6).

والكنيسة هي كرمة الرب، وجنته المغلقة. غروسها الباسقة هم بنو الإيمان، الذين ينهلون من نبع التعاليم الكتابية، ويتغذون بعصارة الاختبارات الروحية، ويسيج حولهم سور متين يتكون من صف أشجار ملتحمة، هي التقاليد الرسولية، ويدعمه جدار من الأحجار الصلبة، هي الطقوس الكنسية، يعلوه سياج من الأسلاك الشائكة هي قرارات المجامع المسكونية.

وهكذا صار لكرم الرب ملامح خاصة تميزه عن كل كرم سواه، وأصبح لجماعة المؤمنين سمات روحية معروفة، واختبارات شرعية مميزة، وكل من شذ عن الجماعة، أُخرج خارج الأسوار، ووقف ملاك بسيف متقلب على باب الكرم، ليحرس الطريق إلى شجرة الحياة. (تك24:3).


حفظة الأسوار

هم حراس الكرم المكلفون بحمايته، والمسئولون عن سلامته، هم رجال الكنيسة المقامون للعناية بقطيع الرب في إطار هذه الأسوار.

والواقع المرير أن رجال الكنيسة الكاثوليكية قد شابهوا حفظة الأسوار في سفر نشيد الأناشيد، الذين قالت عنهم العروس "وجدني الحرس الطائف في المدينة، ضربوني، جرحوني، حفظة الأسوار رفعوا إزاري عني" (نش7:5).

يالها من مأساة !! حفظة الأسوار، والحرس الطائف للحماية هو نفسه الذي يقوم بالضرب والتجريح والتشهير!! ومع من يمارس هذه الأفعال الشاذة؟ مع النفس الباحثة عن السيد المسيح!!

إن زنزانات الباستيل، ومحاكم التفتيش (وهي المحاكم المدعوة "المحاكم المقدسة" !) التي أنشأتها الكنيسة الكاثوليكية في القرن الثالث عشر ودامت حتى القرن التاسع عشر،(مختصر تاريخ الكنيسة – أندروملر – جزء2 ص 44-46) قد تركت بصماتها السوداء علي صفحات التاريخ.


قال أحد المؤرخين:

[كان أهم أغراض محكمة التفتيش إبعاد الناس إبعاداً مطلقاً عن النور الإلهي، وجعلهم في ظلام دامس، فيما يختص بمشيئة الله في الأمور الروحية حتى بذلك تستمر سلطة الإكليروس مطلقة]

(مختصر تاريخ الكنيسة – أندروملر – جزء2 ص43)

ولقد أنشأت الكنيسة الكاثوليكية محاكم التفتيش بحجة الحفاظ علي العقيدة والإيمان من الهراطقة والمنحرفين، ولكنها قد غالت في تصرفاتها فكم من أبرياء قتلت، وكم من نساء رملت، وكم من أمهات أثكلت، وكم من رضع يتمت...!!


أساليب رهيبة


واليك صورة مرعبة لزوار الفجر ومنتصف الليالي، رجال محاكم التفتيش حفظة الأسوار كما دونها التاريخ.

[في منتصف الليل البهيم كان الباب يقرع والأمر يصدر للرجل المشبوه، بأن يرافق رسل الإدارة المقدسة، وكانت الزوجة، وجميع أفراد العائلة يعرفون المعنى المقصود من ذلك ففي الحال يتولاهم الرعب ويعظم كربهم وحزنهم ويودعون الزوج أو الأب الوداع الأخير وليس من يجرؤ علي أن يلفظ كلمة واحدة من كلمات الاستعطاف أو الاحتجاج ...

وكانت المحكمة تنعقد في سرية رهيبة، لا محامون يدافعون عن المتهم، ولا شهود يواجهون به.]

(مختصر تاريخ الكنيسة – أندروملر – جزء2 ص46)

وأنقل لك لوحة كئيبة لأساليب التعذيب والأحكام البشعة التي تردت فيها تلك السلطة المقدسة.

[كانت الخطوة الثانية من إجراءات الإدارة المقدسة، التعذيب البدني...

كانت تحكم على المتهمين بالإعدام، وكانت تستخدم وسائل متعددة لذلك، منها آلة البندول. كان المتهم يُطرح ظهراً على طاولة خشبية، ويُربط ربطاً محكماً في مجرى محفور في أعلى الطاولة لهذا الغرض. وكان يتدلى فوقه شئ يشبه بندول الساعة، وله طرف حاد مركب بكيفية تجعله يستطيل إلى أسفل مع كل حركة يتحركها.

وكان المتهم يرى آلة الهلاك هذه تتمرجح فوقه جيئة وذهاباً، والطرف الحاد يقترب إليه لحظة بعد لحظة، وأخيراً يصل إليه فيقطع جلد وجهه أولاً، ثم يحز رأسه تدريجياً حتى تنتهي الحياة]

(مختصر تاريخ الكنيسة – أندروملر – جزء2 ص47-49)

هذا هو الحال مع حفظة الأسوار الذين نسوا القصد السامي من وجودهم، وهو خير المؤمنين، فما كان منهم إلا أن حافظوا على الأسوار، بطريقة أهدروا بها دماء الكثيرين من الأبرياء والباحثين على النور. فحرموا الناس من الدخول إلى بستان الروحانيات، والمقدسات الإلهية، واكتفوا بشراسة الحماية عن الأسوار. لقد وقفوا من خارج فلم يدخلوا، ولم يدعوا الداخلين أن يدخلوا. (مت13:23).


ناقضو السياج

وعلى نقيض ما ذهب إليه الكاثوليك، فعل البروتستانت.لقد رأينا كيف حافظ رجال الإدارة المقدسة الكاثوليكية على السياجات والأسوار بطريقة شاذة، ولكن رجال البروتستانت، انتقاماً مما فعل الكاثوليك، قاموا بمعاول ماردة، وفتكوا بالسياجات والأسوار، بلا رحمة ولا هوادة.

لقد حطموا الطقس، وانتزعوا أشجار التقليد، واقتلعوا أسلاك المجامع المسكونية. ولم يعلم هؤلاء أنه إذا نُقض السياج، صار الكرم للدوس وانتهى إلى الخراب "أهدم جدرانه فيصير للدوس. وأجعله خراباً" (أش5:5).

وهذا عين ما حدث، ضاعت معالم الكرم، وصار طريقاً للعابرين، وتعددت الملكيات الخاصة، فظهرت مئات المذاهب البروتستانتية المتعارضة، في تعاليمها وطرق عبادتها، والمنشقة بعضها على بعض، وأصبح الأمر بلا رابط ولا ضابط.

وبهذا ضاعت المعالم المميزة للحياة الروحية الشرعية، وفقدت وحدانية الروح الخاصة بكنيسة المسيح.

وأخطر ما يحدث للبيت هو أن ينقسم على ذاته، فمعنى ذلك هو الخراب السريع، كما قال رب المجد "كل بيت ينقسم على ذاته يخرب ولا يثبت" (مت25:12).

هاتان هما الصورتان المتناقضتان بخصوص الأسوار والسياجات. أما موقف الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فموقف حكيم يحفظ للعقيدة توازنها.


زهور في بستان

لم تذهب الكنيسة القبطية إلى أحد التطرفين، فلم تهدم الأسوار، وتحطم السياجات، كما فعل البروتستانت، بل احتفظت بالطقس الكنسي كمعالم مميزة لجماعة المسيح. وفي نفس الوقت، لم تحجر على عقليات المؤمنين، ولم تفرض على الجماعة كلها طرازاً واحداً من أساليب العبادة، كما فعل الكاثوليك، بل بحكمة فائقة سمحت بحرية الحركة داخل السياج العام، فظهرت في داخل الكرم الواحد "مدارس روحية" متنوعة بحسب ما يتناسب مع الفروق الفردية للأشخاص، وفي نفس الوقت يربط هذه المدارس حبل واحد، هو رباط الحب، وشركة الروح ووحدة الإيمان، وذات العقيدة.

ولقد أباح رب المجد يسوع نفسه هذا المبدأ في كنيسة الرسل فقد اختار تلاميذه من عناصر متغايرة، فهناك بطرس الرسول بأسلوبه الحماسي، وهناك أندراوس بروحه الوادع. فقد جمع بين البركان الثائر، والغدير الهادئ.

فلا غرابة إن وجد في كنيستنا "مدارس روحية" قد تختلف بعضها عن البعض في بعض النظم، ولكن تجمعها جميعاً سمات مشتركة.

ففي مجال الرهبنة القبطية نجد نظام العزلة في رهبنة أنطونيوس ونظام الشركة في رهبنة باخوميوس، ورغم هذا الاختلاف، إلا أنه يجمعها سياج واحد، وطقس رهبنة واحد.

(قصة الكنيسة القبطية – إيريس حبيب – جزء 1ص 474)

وفي حقل الخدمة كان فكر ذهبي الفم في جانب، وفكر البابا ثاوفيلس في جانب آخر. فو إن اتخذ ثاوفيلس موقفاً شديداً ضد ذهبي الفم إلا أن الكنيسة اعتبرت الاثنين قديسين فأكدت انفتاحها وعد تزمتها، طالما كانت حركة الفكر في إطار العقيدة السليمة والإيمان المسلم مرة للقديسين.

بل إن سر جمال البستان يكمن في تنوع زهوره بألوانها المختلفة، وروائحها المتمايزة. فهذه زنبقة ذهبية بطيبها الأخاذ، وتلك سوسنة صافية البياض بشذاها الزكي، وهذه نرجسة ضاربة إلى الصفرة بأريجها المنعش.

وليس من المعقول أن تصبغ كل الزهور بلون واحد، ويسكب عليها طيب واحد، حتى تظهر أنها من بستان واحد.

ووجه الاختلاف بين المدارس الروحية في داخل إطار الأرثوذكسية، وبين الطوائف البروتستانتية، أن هذه الأخيرة لا يربطها سياج واحد، بل بلغ التضارب بين شيعها حد التناقض. أما المدارس الروحية فهي متحدة في العقيدة والطقس، وتعتنق نفس التعاليم، وتتمسك بذات التقليد الرسولي، أما التمايز بينها فهو في أسلوب الممارسة، بحسب ما يتفق مع حياة كل فرد، لا في جوهر التعليم.

وبهذه الحكمة الرشيدة حفظت الكنيسة السياج قائماً، ليحمي للمؤمنين ثماراً شهية، وأزهاراً يانعة، وأشجاراً وارفة، واختبارات متمايزة على ممر الأجيال.

 

الفصل التاسع التكلم بألسنة


متاهات متشعبة
ألسنة الناس والملائكة
موهبة لا علامة
حكمة حانية
ضحالة المعرفة
الفكر المستقيم
لبناء النفس
على المستوى الفردي
الضروريات والكماليات
 


التكلم بألسنة
ما من شك أن موهبة التكلم بألسنة قد شغلت الأذهان في هذه الأيام حتى قيل بحق أنها موضوع الساعة. فلقد ثارت حول هذه الموهبة زوابع هوجاء، وعواصف عاتية، وأمسى الفكر بصددها كزورق مسكين، تتقاذفه أمواج بحر شرسة بلا شفقة، حتى أُسقط في دوامة صاخبة، ليعاني من الدوار العنيف.

ضحالة المعرفة
لا يوجد العمق بالقرب من الشواطئ، فمن يكتف بضحالة المياه يفقد خبرة الأعماق. من أجل ذلك أمر الرب تلاميذه بأن يذهبوا إلى العمق (لو4:5).

أما الكنيسة الرومانية، فقد اكتفت بضحالة المعرفة بصدد هذه الموهبة، فاعتبرتها شيئاً خاصاً بيوم الخمسين لتمكين الرسل من تبشير الشعوب المجتمعة بأورشليم، فكان كل واحد يسمع لغته "فرتيون وماديون والساكنون ما بين النهرين .. ومصر ونواحي ليبيا... ورومان... وعرب" (أع8:2-11).

ولقد قامت حركة جديدة داخل الكنيسة الكاثوليكية تنادي بالمواهب الروحية ومنها موهبة التكلم بألسنة، أطلقوا على أنفسهم (الكاريزماتيك)، ولا زالت حركتهم لم يُعترف بها رسمياً. في الكنيسة الكاثوليكية.

متاهات متشعبة

كان لأحد الفراعنة قصر عجيب، يمتد فوق رمال صحراء الفيوم وتتشعب سراديبه، ودهاليزه بكيفية يعسر معها أن يعرف الداخل إليه طريقه ثانية إلى النور، إذ يُبتلع في متاهاته الرهيبة، لذلك سُمي "قصر التيه".

ولعل الطوائف البروتستانتية قد دلفت إلى هذه السراديب، وهي تبحث عن حقيقة التكلم بألسنة.

فإحدى الطوائف تبعت مسلك الكنيسة الكاثوليكية، وطائفة أخرى هوت في حفرة سرداب مظلم، ونفذت في هذه الموهبة حكم الإعدام شنقاً. وثالثة اعترفت بوجودها مع إيقاف التنفيذ. وأخرى صنعت لهذه الموهبة تمثالاً، وحملوه على الأعناق، وصاروا يهرولون عبر الدهاليز، يرددون الهتافات بشعار مذهبهم، أنه لا ملء بالروح القدس بدون هذه العلامة.


وضاعت الحقيقة بين أيدي هؤلاء وأولئك.



الفكر المستقيم

إذا تضاربت الأفكار بصدد أي حقيقة كتابية، تحتم أن نستقصي فكر الآباء عنها، لنقف على جلية الأمر، فلنستعرض إذن الحقائق الكتابية عن هذه الموهبة، مقرونة بأقوال الآباء.



ألسنة الناس والملائكة

تكلم معلمنا بولس الرسول عن نوعين من الألسنة في فاتحة الإصحاح الثالث عشر من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس قائلاً: "إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة..." (1كو1:13).

وألسنة الناس هي لغات البشر، كما هو مذكور في الإصحاح الثاني من سفر أعمال الرسل عما حدث في يوم الخمسين. فقد نال الرسل هذه الموهبة لتعينهم على بشارة العالم بلغاته المتعددة، فأعادت للبشرية ما أفسده برج بابل في القديم.

أما عن ألسنة الملائكة التي أشار إليها الرسول في هذه الآية، فهي شئ يختلف عن لغة البشر، ولعل ما يقصده الرسول هو نفس ما أوضحه القديس إغريغوريوس في القداس الإلهي، بقوله: "أعطيت الذين على الأرض تسبيح السارافيم".

وعن تسبيح السارافيم قال أحد الآباء:

[أحياناً تلتهب نفوسنا التهاباً أثناء الحديث الصامت فلا يطيق الإنسان سكوتاً، فتخرج منه كلمات مبعثرة هي أقرب إلى صراخ الشاروبيم منها إلى الكلام المنطقي المرتب، يعبر بها الإنسان عن حبه، كما يعبر الطفل الرضيع عن حبه لأبيه بمناغاة الكلام غير المفهوم، أو بالصراخ أحياناً.]

(حياة الصلاة الأرثوذكسية – دير السريان طبعة 1952م ص39)


ومما يؤكد ذلك استطراد الرسول نفسه في الحديث عن هذه الموهبة، موضحاً أنها لسان للصلاة فيقول:

k إن كنت أصلي بلسان فروحي تصلي (1كو14:14)

وقال أيضاً:

k من يتكلم بلسان لا يكلم الناس بل الله (1كو2:14)

فكيف نقصر التكلم بألسنة على التبشير، وهو في هذه الآية يقول بصريح العبارة: "من يتكلم بلسان لا يكلم الناس... لأن ليس أحد يسمع" (1كو2:14) وكلمة "يسمع" هنا يقصد بها "يفهم" فيكون قوله "ليس أحد يفهم".

من هذا يتأكد لنا أن هناك نوعين من التكلم بألسنة:

نوع للتبشير، ومثاله ما حدث في يوم الخمسين (أع2)

ونوع للصلاة، وهو ما تكلم عنه بولس الرسول في كورنثوس الأولى، الإصحاح الرابع عشر.


ولقد أيد هذا المفهوم نيافة الأنبا يؤنس بقوله:

[الواقع أن موهبة التكلم بألسنة... تختلف عن بعضها في الجوهر. ولا تعبر عن ظاهرة واحدة... فمعجزة يوم الخمسين، كانت معجزة تمتاز بطابعها الخاص، وهدفها الخاص. تكلم التلاميذ بفضلها بلغات مختلفة من أجل حاجة سامعيهم بقصد تبشيرهم.

أما التكلم بالألسن المذكور في رسالة كورنثوس فهو عمل تعبدي خالص، يختص بالصلاة. ولا علاقة له بالتكلم بلغات جديدة بقصد الكرازة والتبشير.]

(كتاب الكنيسة المسيحية في عصر الرسل-الأنبا يؤنس أسقف الغربية المتنيح ص155)



بناء النفس

لقد أوضح معلمنا بولس الرسول أن موهبة التكلم بألسنة لا تفيد أذهان السامعين بقوله "إن جئت إليكم متكلماً بألسنة فماذا أنفعكم" (1كو6:14)، وأيضاً لا تفيد ذهن المتكلم "إن كنت أصلي بلسان فروحي تصلي أما ذهني فهو بلا ثمر" (1كو14:14).

لهذا قد يعترض البعض على أهمية هذه الموهبة، وربما يحتقرونها. ولكن ينبغي أن يكون واضحاً في أذهاننا أنه طالما الرب قد أعطى هذه الموهبة، فلابد وأن لها فائدة، لأن الله لا يعطي شيئاً تافهاً، أو عديم الفائدة.



فما فائدة هذه الموهبة إذن؟

ويجيب معلمنا بولس الرسول قائلاً: "من يتكلم بلسان يبني نفسه" (1كو4:14) لأنه "بالروح يتكلم بأسرار" (1كو2:14).


وقد علق القديس يوحنا ذهبي الفم عن ذلك قائلاً:

[ربما يعترض البعض قائلين: إن كانت هذه الموهبة غير نافعة فلماذا توهب؟ ويجيب بقوله: إن كانت غير نافعة للآخرين، فهي نافعة ومفيدة لمن ينالها.]

( N. & P.F. Vol. 12 p. 210)


وأكد هذا المفهوم بقوله:

[لا يستطيع أحد ممن لم ينالوا الموهبة أن يفهم من يتكلمون بألسنة.]

(Ibid. p. 209)



موهبة لا علامة

في الوقت الذي تخبط فيه اللاهوت البروتستانتي حول هذه الموهبة، كانت الرؤيا في منتهى الوضوح أمام قيادة كنيستنا الحكيمة. فالتكلم بألسنة وأن صاحب بعض حالات الملء، إلا أنه ليس العلامة الوحيدة للملء. ففي نبوة يوئيل عن انسكاب الروح القدس ذكر بعض المواهب التي قد تصاحب الملء، وليس من بينها موهبة التكلم بألسنة، إذ قال: "في الأيام الأخيرة أسكب من روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويرى شبابكم رؤى، ويحلم شيوخكم أحلاماً، وعلى عبيدي وإمائي أسكب أيضاً من روحي فيتنبأون" (يوئيل82:2، أع16:2).

فقد تكلم هنا يوئيل عن مواهب التنبؤ، والرؤى، والأحلام، ولم يذكر التكلم بألسنة. فليس من المحتم إذن أن تظهر "الألسنة" كعلامة الملء الوحيدة، وإنما قد ينالها الممتلئ كموهبة، أو قد لا ينالها، شأنها شأن بقية المواهب الأخرى.

أما عن ظهورها مصاحبة ثلاث حالات من الملء في سفر أعمال الرسل، فقد كانت لإعلان قبول شعوب العالم ممثلة في هذه الباكورات.

k فظهورها يوم ملء التلاميذ (أع4:2) كان لإعلان قبول اليهود لهذا السكيب.

k وظهورها في بيت كرنيليوس القائد (أع46:10) كان لإعلان قبول الرومان في شركة هذه العطية، الأمر الذي شجع بطرس الرسول على القيام بتعميدهم بمعمودية الماء.

k وظهورها يوم امتلاء تلاميذ أفسس (أع6:9)، كان لإعلان قبول اليونانيين لهذه البركة العظمى. هذا ولم يُذكر في الكتاب عن هذه العلامة شئ بعد ذلك لا في امتلاء بولس الرسول، رغم أنه نال هذه العطية كموهبة لا كعلامة إذ قال "أشكر إلهي إني أتكلم بألسنة أكثر من جميعكم" (1كو18:14) ذلك لأنه من ضمن اليهود الذين أظهرت علامة قبولهم في معمودية الرسل.

ولا مع أهل السامرة (أع8) لأنهم أيضاً من إسرائيل الذين أُعلن قبولهم في معمودية التلاميذ (أع2) ولا في أي موضع آخر بالكتاب المقدس.

ولا يوجد قول واحد من أقوال القديسين يثبت أن هذه العطية هي العلامة الوحيدة للملء بالروح القدس.

لهذا كان إيمان الكنيسة بأنها موهبة كسائر المواهب "فإنه لواحد يُعطى بالروح كلام حكمة .. ولآخر أنواع ألسنة. ولآخر ترجمة ألسنة" (1كو7:12-10) وأنها ليست العلامة الوحيدة للملء كما تنادي إحدى الطوائف البروتستانتية.




على المستوى الفردي

لقد حذر معلمنا بولس الرسول من مظاهر الضوضاء، والضجيج في العبادة، قائلاً "الله ليس إله تشويش بل إله سلام" (1كو32:14)، فوضع قاعدة ذهبية لكنائس الله بقوله "ليكن كل شئ بلياقة وحسب ترتيب" (1كو4:14) مشيراً إلى الغاية الحكيمة من ذلك بقوله "حتى تنال الكنيسة بنياناً" (1كو5:14).

فليست الكنيسة سوق تجارة بضوضائه وجلبته، إنما هي بيت للعبادة في وقار وهدوء هي بيت الصلاة يدعى لا مغارة مزدحمة بالأصوات المختلفة. هي مدرسة منظمة تحت أرجل معلم صالح. هي بستان باسق في توزيع رائع. هي لحن متناسق في انسجام بديع.

لذلك فإن حدث وانسكبت موهبة التكلم بألسنة على أحد المصلين في وسط الجماعة، لزم الصمت حتى لا يسبب انزعاجاً، وليكلم نفسه والله لأجل بنيانه الشخصي، هذا ما شرعه الوحي الإلهي على لسان معلمنا بولس الرسول إذ قال:

[إذاً أيها الاخوة. متى اجتمعتم فكل واحد منكم له مزمور، له تعليم، له لسان، له إعلان، له ترجمة. فليكن كل شئ للبنيان. إن كان أحد يتكلم بلسان فاثنين اثنين، أو على الأكثر ثلاثة ثلاثة، وبترتيب وليترجم كل واحد. ولكن إن لم يكن مترجم فليصمت في الكنيسة وليكلم نفسه والله.]

(1كو26:14-28)

هذا ما ينبغي أن تلتزم به الكنيسة في عبادتها، وإلا فإن دخل إنسان غير مختبر، أو غير مؤمن، ورأى الجميع يموجون كل في واديه... أصوات مختلطة، كلمات غير مفهومة، صيحات عالية، صرخات مدوية، بكاء وعويل، ضحك وتهليل، أبيض وأسود، ... أياد ملوحة، رؤوس منكسة، خطوط متعارضة ... أفلا يقف كعصفور مبتل في يوم مطير، وسط زوبعة عاصفة!! فماذا يفعل المسكين؟ وكيف يقول أمين عند شكرك؟ (1كو16:14).

بل ربما ينقلب هذا العصفور الخفيض الجناح، بعد زوال الزوبعة، إلى نسر جارح مفترس، فيحكم عليكم أنكم تهذون. (1كو23:14).

ولماذا تلقى الدرر أمام من تدوسها بأرجلها، وتلتفت فتمزقكم؟ (مت6:7).

لهذا كانت حكمة آبائنا القديسين صائبة في ممارسة المواهب الفائقة على المستوى الفردي، حتى لا تتعطل رسالة الإنجيل، ويتعثر بنيان الكنيسة (1كو5:14،12).



حكمة حانية

كنيستنا المقدسة لا تعارض المواهب الفائقة على الإطلاق، ولا تقف في وجهها، ولا تحقر أية موهبة، ولا تمنع التكلم بألسنة، لالتزامها بالكتاب المقدس الذي يقول: "إذاً أيها الاخوة جدوا للمواهب، ولا تمنعوا التكلم بألسنة" (1كو39:14).

وأكد ذلك بقوله: (هكذا أنتم أيضاً إذ أنكم غيورون للمواهب الروحية. اطلبوا لأجل بنيان الكنيسة أن تزدادوا." (1كو12:14).

ولكن الكنيسة تدقق تدقيقاً بالغاً للاطمئنان على صدق الموهبة حتى لا يروج للعملات الزائفة، على حساب المواهب الصادقة.

والكنيسة أم حانية حكيمة، يخفق قلبها خوفاً على أولادها. تربيهم، وترعاهم بمنتهى الحكمة والحذر.

تأملوا أماً تقمط وليدها بكل حنان بأقماط يراها الطفل كأكفان اللحود. فيضيق بها ذرعاً، ويحاول أن يتخلص منها برفسات رجليه، وحركات يديه، وقد ينجح في ذلك. ولكن سرعان ما يجد نفسه مكبلاً من جديد.

فهل تجردت الأم من مشاعر الأمومة الحانية؟ كلا. بل ما حداها إلى هذا التصرف سوى العاطفة الجياشة نحو وليد لها تريد له الحياة والبقاء.

وفي فصل البرودة القارس، تبذل الأم جهدها لإبعاد البرودة عن وحيدها، فتدفئ جو الحجرة لترتفع حرارته، إلا أنها تخشى عليه من حرارة مرضية نتيجة الإصابة بحمى قرمزية.

وفي الوقت الذي تسعى جاهدة لتعلمه نطق الحروف، قد تصاب بالانهيار إن ظهرت عليه أعراض الهلوسة تحت وطأة المرض. يا لها من رعاية حانية حكيمة.

فكنيستنا تريد للمواهب أن تزدهر، وأن تنتشر، ولكن بطريقة شرعية، غير مَرَضِية. فهي تخشى على أولادها المؤمنين من حرارة الحمى الانفعالية، ومن خبث سرطان الكبرياء الذي لا يشعر به المريض في مراحله الأولى، بل يستيقظ منزعجاً على لدغته الفتاكة بعد فوات الأوان، "قبل الكسر الكبرياء" (أم18:16).

كما تشدد الكنيسة الرقابة، حتى لا يطلع أصل مرارة فيسبب انزعاجاً، وانشقاق البيعة، ويشطر عروس المسيح، وينقلب العرس مأتماً.

إن نسيت فلن أنسى في طفوليتي ليلة عرس في قريتنا، واحتفالات الريف بالأفراح في ذلك الحين كانت كمهرجانات شعبية صاخبة. طبول وخيول، رقص وتحطيب، زغاريد وتصفيق إيقاع...

وسار الموكب في شوارع القرية الضيقة، يتقدمه أصحاب الجياد المطهمة، وقد امتطوا صهواتها في زهو وخيلاء، يمزقون سماء القرية الوادعة بقصف الأعيرة النارية المتلاحقة.

واقترب الموكب من بيت العريس في نهاية مطاف زفة العروس، فاحتشدت الجموع أمام الباب، وحمي الرقص، واشتد وابل الرصاص، وتراصت النساء فوق الأسطح المطلة على بيت العريس، وقد أطلقن الزغاريد التي علت فوق رعود البنادق.

وفجأة انفجرت عقائر النساء بعويل وصراخ شديد، وقد انهالت كفوفهن باللطم على وجوههن ... وانهالت الدموع السخينة من آماقهن، مع ولولة التفجع والتأسي...

لقد أصاب طلق ناري قلب إحداهن فهوت للحظتها جثة هامدة فاقدة الحياة...

وتحول العرس مأتماً...

والكنيسة في حرصها الشديد، تضع يدها على قلبها إذا أبصرت موكباً لا يشق له عباب، خشية أن ينقلب المشهد، ويحدث مثلما حدث في تلك المأساة الحزينة، ويصاب ابن المسيح، بسبب تصرف خاطئ، أو انفعال غير حكيم.



الضروريات والكماليات

كنيستنا يهمها بالدرجة الأولى الضروريات لا الكماليات.

فالأساسيات الأولى التي تهتم بها الكنيسة هي نشر رسالة الخلاص، ليقبل الجميع إلى المسيح، ويتعرف القطيع على راعيه.

والشق الثاني من اهتمامها هو بنيان المؤمنين، لينموا في النعمة، ومعرفة مشيئة الرب، ويثمروا لحساب مجد الله في حياة مرضية ومقبولة سالكة ليس حسب الجسد بل حسب الروح.

أما المواهب الفائقة فقد أعطيت من الله لإظهار الروح للمنفعة (1كو7:12) فيتأيد الكلام بالآيات التابعة (مر20:16).

ولكن إن بدا أن موهبة ما سوف لا تفيد في التأييد، بل ستكون سبباً في التشتيت والتبديد، كف استخدامها لحين، ولزم أن تتوقف في الحال لحكمة.

فإذا أعطى الطبيب علاجاً سليماً لأحد المرضى. ثم اتضح أن جسمه لا يحتمل قوة الدواء، وقد يأتي بنتائج عكسية، أمر بإيقاف تعاطيه في الحال.

الأمر إذن ليس مجرد أقراص تُعطى، وأمصال تُحقن، وإنما يحتاج الحال إلى ملاحظة دقيقة لتجاوب الجسم مع الجرعات. فرُب جرعة سخية تودي بحياة غالية.

من أجل هذه الاعتبارات فإن معلمنا بولس الرسول قد أمر صاحب موهبة الألسنة "أن يصمت في الكنيسة ويكلم نفسه والله" (1كو28:24).

بل أن ربنا يسوع المسيح نفسه لم يقبل أن يصنع معجزة واحدة في وطنه لأنهم "كانوا يعثرون به" (مت57:13،58).

وعندما طلب منه الكتبة والفريسيون آية،امتنع عن أن يجيبهم قائلاً: "جيل شرير فاسق يطلب آية ولا تُعطى له آية إلا آية يونان النبي" (مت39:12).

يا لها من حكمة فائقة كل اهتمامها هو ربح النفوس، وعدم إعثارهم خشية إهلاكهم، ولو على حساب المكاسب الشخصية والامتيازات الذاتية.

وقد تبلورت هذه الحكمة في قول معلمنا بولس الرسول: "إن كان طعام يُعثر أخي. فلن آكل لحماً إلى الأبد، لئلا أُعثر أخي" (1كو13:8).

إني أعشق في كنيستي حكمتها، وغيرتها المقدسة على النفوس التي مات المسيح لأجلها.

(أنظر كتاب التكلم بألسنة للمؤلف)

 

 

لفصل العاشر ثروة ذاخرة



مع أبي الراهب
الكنز الثمين
معايشة الآباء
سيمفونية الخلاص
الاجتهادات المستحدثة
وقفات صامدة
ثروة ذاخرة

لماذا أتشبث بالأرثوذكسية مذهباً؟

ليس لأني رضعت لبنها في طفولتي، أو لأني ترعرعت في بستانها الزاهر في صبوتي، فحسب، وإنما لأجل ذلك الكنز الثمين الذي عثرت عليه، و تلك الثروة الذاخرة التي آلت إلينا من تراث آبائنا الأماجد، فوضعت النقط فوق الحروف، في أخطر موضوع شغل بالي، واحتل مركز تفكيري.


مع أبي الراهب

يوم أن بدأت أحبو في الطريق الروحي، تلقفتني أياد حانية، أحاطتني بدعامات من أقوال القديسين، لتسند عودي، وتشد قوامي.

كان أبي الراهب يقبع في قلايته النائية، المنعزلة عن الدير، هناك على حدود الحديقة، تحجبها عن الأنظار غابة من أشجار الجازورين السامقة. وعلى ضوء مصباح خافت، كنا نجلس داخل هذا الكهف المقدس، إلى ساعة متأخرة من الليل، يقدم لي فيها أطعمة شهية من أقوال مار اسحق، والأنبا أنطونيوس والقديس مقاريوس.

عشقت نسكيات آبائي، خاصة عندما رأيتها تتحرك أمام ناظري في هدج متواضع، وتهمس في صوت وادع، وترنو في هدب خاشع. رأيت الروحانية متجسدة في هؤلاء الآباء الرهبان.

يا لها من باقة نادرة! فو إن كان رداؤها ذا لون واحد، وهو اللون الأسود، ولكن تنوع طبائعها الروحية هو كتنوع ألوان الطيف في قوس قزح، واختلاف عبيرها، كاختلاف أحواض الرياحين في أريجها وشذاها.



الكنز الثمين

صرت أطفر في ربوع الدير البديع وكأني أعيش أيام جنة عدن. كان كل ما في الدير يشدني إليه بقوة. فأخذ ت استكشف كنوز مخابئه ودلفت إلى مكتبته الذاخرة ، وتسمرت عيناي على كنز يقبع فوق أحد الرفوف، حيث توجد عدة مجلدات كبيرة، وتسللت يدي إلى إحداها إنها مجموعة أقوال آباء الكنيسة الذين عاشوا في القرون الأربعة الأولى، قبل أن تنقسم الكنيسة إلى معسكرات وشيع.

ركض قلبي بابتهاج في أعماقي، لقد وجدت ضالتي المنشودة، فكم من آيات في الكتاب غلق عليّ فهمها، وكم من مواضيع تضاربت بازائها الآراء المحدثة وعسرت معرفة الحقيقة.

شعرت لحظتها أن باب الرجاء قد انفتح على مصراعيه، وأن نبعاً فائضاً قد تفجر في برية حياتي القاحلة، بعدما استبد بي الظمأ.

ومن تعطفات الرب الجزيلة أن أرسل لي مجموعة نظيرها لتقيم معي في بيتي، ولتقاسمني الحياة، وتمدني بعصارة ذخائرها الرائعة.



معايشة الآباء

أحسست أنني دخلت مدرسة الآباء لأتلقى المعرفة الخالية من الزغل. المعرفة المتعمقة اتحدت بمسحة الروح، على أيدي أساتذة لا ينامون الليل، ولا يتعبون من الكلام، ولا يغلقون أبوابهم على الإطلاق.

وأحيانا كنت أشعر بأنني حاضر في زمان هؤلاء الآباء، أطوف على كنائسهم، وأجلس أسفل منابرهم، وأشارك جماهيرهم المحتشدة مشاعرهم.

كثيرا ما أفقت وقد انسابت دموعي بغزارة مع من بللوا أرض الكنيسة بسيول مدامعهم.

وأحيانا كنت أخالهم يملأون عليّ خلوتي بأصواتهم المتجسدة في كتاباتهم. لقد جلست طويلاً عند أقدام ذهبي الفم أصغي إلى الدرر الغوالي تنساب من بين شفتيه ... وكم أثرت في وجداني شاعرية مار أفرام السرياني ... وكم هزت كياني رعود أثناسيوس الرسولي في دفاعه المجيد عن الإيمان ... وكم بهرتني عبقرية ديسقوروس ...

وكم أجبرتني على احترامها شخصية كيرلس عمود الدين بطل مجمع أفسس في مواجهة هرطقة نسطور الدنيئة.

وكم خلبت لبي فلسفة أوغسطينوس الذي جلس على قمة العالم عندما أحس في ذاته أنه لا يشتهي شيئاً، ولا يخاف شيئاً ...



سيمفونية الخلاص

أما الكلمات الرقيقة التي عزفت على أوتار قلبي، لتسمعني سيمفونية الحب الإلهي والخلاص المجيد، فكانت من فم القديس كيرلس الأورشليمي والقديس أكليمندس.

أود أن أكتب تلك الكلمات بماء الذهب، لأنها كم كانت، ولا زالت، غالية وثمينة لنفسي.

لقد أشبعت جوعي الذي تضورت به سنين عديدة، إذ أوضح القديس كيرلس أن ما تعب فيه نساك كثيرين بأنواع تقشفات متنوعة، لجلب رضى الله عليهم، قد أتمه السيد المسيح في لحظة واحدة على الصليب، إذ بهرق دمه الكريم اجتذب رضا الآب على كل من يحتمي في جنبه المطعون بإيمان بسيط، فقال:

[ما أعجب محبة الله المترفقة فقد قضى الأبرار سنيناً في إرضائه، وما نجحوا في الحصول عليه خلال هذه السنين الطويلة قد سكبه المسيح عليك في ساعة واحدة لأنك إن آمنت أن يسوع المسيح رب وأن الله أقامه من الأموات خلصت، وانتقلت إلى الفردوس بواسطة ذاك الذي نقل اللص، فلا تشك في إمكانية ذلك لأن الذي خلص اللص على الجلجثة المقدسة بعد ساعة واحدة من إيمانه هو نفسه الذي يخلصك أيضاً عندما تؤمن]

(N.F.VOL VII P 31 )



أما القديس أكليمندس فقد قال:

[نحن الذين دعينا بإرادته في المسيح يسوع لن نتبرر بذواتنا، ولا بحكمتنا ولا بفطنتنا، ولا بتقوانا، ولا بأعمالنا التي نصنعها في قداسة القلب، بل بالإيمان الذي منذ البدء برر به الرب ضابط الكل ، كل الناس له المجد إلى أبد الآباد آمين]

(Ante N.F. VOL. I. P. 13.)

يا لها من عبارات رائعة، قد فتحت أمامي آفاقا واسعة، ودخلت بي إلى قلب حنان السيد. فكان لها أصداء عجيبة، ما زالت تتردد في أرجاء كياني ووجداني.



الاجتهادات المستحدثة

إنه بلا شك ضرب من الجنون، إذا ترك الإنسان ميراثاً ثميناً هذا مقداره، ليبذل محاولات غير مضمونة، عساه أن يحقق ما وصل إليه آباؤه.

ويخطئ من يظن أن الدين علم ينطبق عليه ما ينطبق علي كل العلوم من مبدأ البحث و الاجتهاد، للوصول إلى جديد في عالم الاكتشافات و الاختراعات.

إن أردنا أن نشبه الدين فمثله كمثل الخمر المعتقة التي لا يصل إلى مستواها أي خمر جديدة حديثة الصنع. والأمور الروحية كالآلات الموسيقية التي تزداد جودة كلما تقادمت بها الأيام.

اختبارات الآباء الأول هي رؤية واضحة عن قرب، تشبه تقارير رواد الفضاء عندما اقتربوا من القمر ليحدثونا عن وجهه الآخر غير المرئي. هذه التقارير بلا شك أصدق من كل ما كتب عن القمر من فوق سطح الأرض.

فالآباء الذين عايشوا الرسل ، واقتربوا من مجال حياتهم، وسجلوا مقاصدهم عندما كتبوا أسفارهم، هم أقدر بكثير من كل من يكتب عنهم على بعد آلاف السنين.

أقوال الآباء وتفاسيرهم إذن بمثابة مذكرة تفسيرية لدستور المشرع التي يتحتم على كل المجتهدين الالتزام بها.

فلا يظن كل مستحدث فكر في العقيدة أنه مصيب فيما يقول، فمن الواضح أنه يسجل انطباعاته الشخصية، ووجهة نظره الخاصة وقد ينسبها إلى السيد المسيح والآباء الرسل على أنها هي الحق الخالص والحق بريء منها براءة الذئب من دم يوسف بن يعقوب.

إني أرجو أن يشرق فجر عهد جديد على المسيحية في كل الربوع لنتتلمذ على أيدي أقوال آباء الكنيسة الأولى بعد الكتاب المقدس، ويومها تتم الوحدة المبنية على أساس الإيمان الواحد، والعقيدة الواحدة ، والروح الواحد.



وقفات صامدة

لقد تصدى آباء كنيستي لكل هرطقة لقيطة ، ولكل فكر منحرف، لكي يحفظوا لنا دم الإيمان نقياً.

هل ينسى العالم وقفة أثناسيوس أمام وحشية آريوس. وهل يستطيع أي باحث أن يطمس نضاله في مواجهة تلك العواصف التي كادت أن تقتلع أوتاد الإيمان.

كم من متاعب صادف؟

وكم مرة نُفي من كرسي بابويته؟

كم عانى من الجور وانقلاب الموازين حتى حُكم عليه ظلماً وبهتاناً أنه هرطوقي ؟! يا للغرابة !! الذي تصدى للهرطقة يصبح هو نفسه في منطق الطغاة هرطوقياً !!

كم من مرة طورد وطُلبت دماؤه حتى لم يجد مأوى سوى مقبرة أبيه يحتضن عظامه لعله يجد فيها الأمان.

لقد قام العالم كله ضد أثناسيوس، ولكنه ثبت على أرض العقيدة الصلبة، ورفع شعاره الخالد، وصيحته المدوية عبر الزمان (وأثناسيوس ضد العالم )

وصارت من يومها مثلاً يضرب في الثبات والكفاح.

وهل ينسى العالم كيرلس عمود الدين، بقامته العملاقة يتصدى كبطل جبار لهرطقة نسطور اللقيطة التوأم لهرطقة آريوس.

نعم أن الهرطقات لقيطات. فهن نتاج علاقة غير شرعية بين العقل والفلسفة في مخدع العقيدة المقدسة. وطوبى لمن يمسك بناتهن ويقتلهن عند الصخرة، صخرة الإيمان السليم.

لقد وقف الآباء صامدين كالطود أمام هذه الهرطقات الغريبة واستحقوا بصدق كأبطال إيمان كل تطويب.

هذا أبي ذاك جدي ، وتراث إيمانهم ينير دربي، ويشد عزمي، ويؤكد عهدي... فاضت شفاه مخلصه بكلمات بسيطة معبرة، قصدت أن أقدمها لك كما هي، وهي نشيد حماسي معبر عن أصالة الإيمان:



أنا ابن من رفض البدع أنا أرثوذكسي

أنا من تمسـك بالأيمان اليوم كـأمس

أنا من تحـدى الهرطقات بالاسـتشهادِي

ومرجعـي هو الكـتاب كلام الفـادي

وكـل أقـوال الآبـاء بيـن الأيـادي

سـراجنا تقـليد مجـيد من الأجـداد

يا نفسي ساكن فيك الـروح. روح الإله

لا تصـمتـي وقـلبـك هـيكـل لله

إن كـنت تجـهلي، اسـألي فسـتنالي

وإن كـنت تعلمين اشهدي ولا تبـالي

هيا قـفي على المحـرس كـل الليـالي

لا تمسكي بل خبري على مدى الأجـيال

لا بالقوة ولا بالقـدرة بل بـروح الله

أقـدم الإنـجيـل نـوراً للـخطـاه



فيـها أجناد الصـليب بنـي السـلام

إلى الزحـف الـمقـدس إلى الأمـام

إلى الحق إلى الجـهـاد على الـدوام

لا ترهـبوا الأسـود لا ولا السـهام

 

الفصل الحادي عشر دماء مناضلة



فاتحة سوداء
وديعة غالية
قصيدة
دماء مناضلة


إن بذرة الإيمان التي ألقاها رب المجد في تربة القلب إنما هي في حاجة مستمرة إلى الري والسقي الدائم. ولقد كانت القطرات الأولى التي روتها، هي الدماء المنسكبة من فوق الصليب. وبهذا علمنا الذبيح أن نفتح الجنب والجبين لسقي بذار الملكوت في كل جيل.

وشعلة الإيمان التي تسلمتها الأجيال متوهجة وضاءة، ما زيت وقيدها إلا من دماء الشهداء الأطهار.

لقد بذل فدائيو الملكوت دماءهم رخيصة على أرض العقيدة للحفاظ على المقدسات من عبث الغزاة والطغاة.

وهكذا صار بحر دماء الشهداء الأحمر مصدر رعب لجحافل الأباطرة والولاة، في صحوهم، وفي أحلامهم. فمنهم من غرق فيه وهوى كالرصاص إلى القاع نظير دقلديانوس الإمبراطور الجاحد. ومنهم من عبر مع المفديين إلى شاطئ الإيمان والأمان كقسطنطين الإمبراطور الظافر.

لقد احتضن الشهداء أسوداً ووحوشاً مفترسة في ساحات الاستشهاد، برهاناً على صدق إيمانهم، وتأكيداً لمجد رجائهم. الأمر الذي دفع بكثير من الوثنيين إلى إلقاء أنفسهم خلف الشهداء فواجهوا نفس المصير المجيد بعد أن وضحت أمامهم رؤية الإيمان، وأبصروا بالعيان تيجان المجد تستقر على رؤوس المقتولين.

ناضل آبائي وكافحوا بالدم من أجل الإيمان المسلم مرة للقديسين، حتى يسلموه للأجيال المتعاقبة كاملاً غير منقوص. وكان نصيب كنيستنا القبطية الأرثوذكسية من الاضطهاد أوفر من أية كنيسة أخرى، مما دعى مدام بوتشر المؤرخة الإنجليزية في كتابها (تاريخ الأمة القبطية) أن تضيف إلى عجائب الدنيا السبع عجيبة ثامنة هي بقاء الكنيسة القبطية صامدة أمام شراسة الاضطهادات التي توالت عليها.

إن حوافر خيول الرومان لازال آثارها باقية إلى اليوم على أرض الكنيسة.

وإن عدد شهدائنا المهول لازال يملأ مجلدات التاريخ.

كنيستنا لم تجد فرصة على ممر الأجيال لترتاح من سيوف القناصة، فما كاد عهد يمضي ومخالبه تقطر بدماء الشهداء ، حتى يأتي عهد جديد شره إلى دماء الأمناء. وتعاقبت العصور ملطخة أنيابها بدماء الحملان الأبرياء.

ورغم تفنن الطغاة في وسائل إبادة الإيمان من قلعته الحصينة، إلا أنه قد تحطمت شراستهم على صخرة العقيدة الصلبة.



فاتحة سوداء

وتهون الطعنات إن جاءت من يد وثنية، أما وأن تأتي من يد الأخ والحبيب، فهذا ما يجعل الجرح مضاعفاً والألم غير محتمل.

"ما هذه الجروح في يدك؟ … هي التي جُرحت بها في بيت أحبائي" (زكريا6:13).

لقد أطاحت لكلمات الأشقاء بأضراس ديسقورس، وانتزعت الأيادي الشرسة شعر لحيته بلا شفقة ولا رحمة، وتم هذا كله في ساحة المجمع المسكوني(؟) في خلقيدونية عام 451م.

وكان هذا التاريخ فاتحة سوداء لأزمنة مريرة من العذاب والاضطهاد لأقباط مصر علي أيادي الحزب الملكي المسيحي، مما دعاهم أن يستجيروا من الرمضاء بالنار، ففتحوا أبوابهم لجحافل جيش غريب عاةٍ، لعله يكون أخف وطأة من كلكل الروم المسيحيين إسمياً و بهذا دخل أقباط مصر في عهد أغبر رهيب، و كأنهم فتحوا على أنفسهم أبواب الجحيم. ولولا وعد الرب الأمين "بأن أبواب الجحيم لن تقوى عليها" (مت 18:16) لما بقي للمسيحية بقية في أرض مصر، بسبب ألوان العذاب والاضطهادات التي خاضتها مع الأيام .



وديعة غالية

وتوالت العصور والكنيسة الأم مطروحة للذبح، وأبناؤنا البررة يلقون بأنفسهم في فم التنين فداء أمهم الأمينة وفداء عقيدتهم الثمينة، ولأجل رسالة مسيحهم العظيمة.

وانفتحت عيناي على أمي الكنيسة، وقد خاضت في دماء أبنائها مثخنة بالجراح، تحتضن الإيمان، تخبئه في صدرها، تغرسه في قلوبنا، تودعه أمانة في أعناقنا.

قصـيدة

إلى أرواح آبائي المناضلين وإلى أبنائهم المجاهدين أهدي هذه الكلمات المعبرة عن تاريخ مجيد ومسيرة مقدسة .


وطافوا بالمشـاعل كارزيـنا

بنـو الأيمان قد هبوا أسـودا

على من في القـبور مكفنـينا

توهـج نور نهضتهم مضـيئا

وإيمـان وعـزم لـن يلـينا

حـداهم للبشـارة قلـب حب

عبيـداً فـي القيـود مكبلـينا

فجـالوا بالصليب يخلصـون

بروح القـدس يمـلأهم يقـينا

شـهود للمسـيح الحي فيـهم





وذاقوا الهول واحتضنوا العذابا

إلى الأقطار قد ركبوا الصعابا

فلم تحـرق لظاه لـهم ثيـابا

رمـوهم في الأتون مقيـدينا

وما حسـبوا لأنفسهم حسـابا

وغنـوا في السجون مهللـينا

وما حمـلوا لمن أضر عتـابا

وصـلوا للـذين لهم أسـاءوا

شفيعاً في الذي رشق الحـرابا

وكانوا كالذبيـح على الصليب



أمام السـيف في غمد السـلام

ودانـت دولة الروم القيـاصر

وعاشوا في ائتلاف في وئـام

وعم الحـب أحشـاء البـرايا

فنور الحق يشرق في الظـلام

وما خـاب لأبطـال نضـال

كآبـائي علـى كـل الأنـام

فهيـا اخـوتي الـقوا شـباكا

فتـاج المجد وعد في الخـتام

إلام الجبن ؟ لا تخشـوا المنايا

 

 

الفصل الثاني عشر نهضة معاصرة



عصور الظلام
انبثاق النهضة
صبغة الحركة
حساسية وتوجس
انطلاقة جديدة


نهضة معاصرة

استيقظي. استيقظي البسي عزك يا صهيون. البسي ثياب جمالك يا أورشليم. (أش1:52).

قومي استنيري لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليك. فتسير الأمم في نورك والملوك في ضياء إشراقك. (أش1:60-3).



عصور الظلام

تردت أورشليم في دياجير الظلام زماناً، وسادها الجهل والتخلف، ولكن وليها الحي، عاد ليرضى عليها من جديد، ليعيد إليها العز القديم ويلبسها ثياب جمالها التليد. فأشرق عليها ثانية بنور البر والمجد، وأخذت مكانتها الأولى في قيادة الأمم وملوك الأرض.

هذه صورة تكررت مع كنيستنا، فبعد ربيعها المزهر عبرت في خريف مقفر، وتساقطت أوراقها، وذبلت أزهارها، وجفت أثمارها، وخفت صوت أثناسيوس، وبهتت صورة كيرلس، وأسدل الظلام ستاراً على كواكب البرية فخبت أنوارها، وأفلت نجومها.

وطال فصل الخريف المقبض، حتى أتت بواكير ربيع جديد، فبزغ نوار الحقول، وفاح أريج البساتين، إذ قيض الرب للكنيسة رائدا بعث الحركة في جسم الكنيسة لتقوم من كبوتها، وتنهض من رقدتها، وتلبس عزها وثياب جمالها.

وحمل هذا الرائد المكرس المتنيح الأرشيدياكون حبيب جرجس المشعل الذي أوقده أبو الإصلاح البابا كيرلس الرابع.

وعاش حبيب جرجس متبتلاً لأجل العمل المقدس الذي أنيط به وإليك ما سجله بقلمه عن المناخ الكنسي الذي عاش فيه، والذي قذف به إلى القمة، فقد قال:

[بقيت الكنيسة القبطية في اضمحلال وضعف مدة خمسة عشر قرناً... وإن حق لنا أن نصف هذا العصر فإننا نسميه عصر الظلام، وعصر الركود والتأخير.]

(المدرسة الإكليريكية القبطية الأرثوذكسية بين الماضي والحاضر. حبيب جرجس ص 9)

ولقد رسم صورة دقيقة المعالم لهذا الاضمحلال والظلام في صدر حديثه عن البحث عن مدرس لتدريس مادة الدين بالمدرسة الإكليريكية فقال:

[وقد يعجب القارئ إذ يرى أن المدرسة الإكليريكية التي أُنشئت لتدريس الدين، والتثقيف بجميع أنواع الثقافات الدينية لم يكن بها مدرس للدين.

وكل ما كان يكون هو أن حضرة ناظر المدرسة، وكان غيوراً فاضلاً، ولم يكن من الكهنة، ولا من الباحثين في الدين، ولا من الدارسين له، أنه كان يختار بعض الكتب الدينية ويسلمها للطلاب، فيقرأون منها أمامه.

وكثيراً ما كتب الطلبة إلى غبطة السيد البطريرك، وإلى هيئة اللجنة الملية وقتئذ يطلبون تعيين مدرس للدين ...

وهكذا بقيت المدرسة أربع سنوات كاملة من غير مدرس للدين، فكان أن تركها أكثر الطلبة.

ولما كثرت الكتابات. قررت اللجنة الملية تعيين مدرس للدين هو جناب الإيغومانس فيلوثاؤس. وكان الرجل الوحيد المتضلع في الدين في ذلك العصر. وكان الواعظ الأوحد. ولم يكن في الطائفة غيره. ولكن مع الأسف الشديد كان كبير السن وكان مريضاً فلم يمكث أكثر من خمسة عشر يوماً.

وكان المعلم الثاني للدين بالمدرسة الإكليريكية هو المرحوم القمص يوسف حبشي، وكان وقتئذ في الحلقة السادسة من سني حياته، وكان قد قضى حياته كلها في روما، فأتقن اللغتين الإيطالية والفرنسية، ولكنه كان ضعيفاً جداً في اللغة العربية، وكانت معلوماته في العقيدة الأرثوذكسية قليلة.

وكان كل ما يدرسه للتلاميذ ما ينقله نقلاً حرفياً من كتب أجنبية في مبادئ الدين المسيحي إلى اللغة العربية بأسلوب ضعيف، مما أدى به أخيراً إلى التقصير والانقطاع عن المدرسة من تلقاء نفسه.]

(المدرسة الإكليريكية القبطية الأرثوذكسية بين الماضي والحاضر. حبيب جرجس ص 16)

ثم يستطرد حبيب جرجس متحدثاً عن كيفية اختياره وهو مازال طالباً ليقوم بتدريس الدين في المدرسة الإكليريكية لافتقارها إلى مدرس دين فيقول:

[ولما كنت أول المدرسة، وكان المرحوم يوسف بك منقريوس يثق بي كل الثقة، طلب من اللجنة الملية تعييني مدرساً للدين بالمدرسة وأنا طالب بالسنة النهائية. وقررت اعتماد تعييني مدرساً للدين بالمدرسة بتاريخ 17 مارس 1918].

(المدرسة الإكليريكية القبطية الأرثوذكسية بين الماضي والحاضر. حبيب جرجس ص 20)



انبثاق النهضة

كان هذا هو حال الكنيسة في عصورها المظلمة فقيض الرب لها هذا الرائد المبارك الذي حمل لواء النهضة المعاصرة في الكنيسة اليوم، وشق طريقا شائكا في سبيل تحقيق هدفه المقدس. اسمعه يقول:

[وما كانت الكنائس تسمح لنا بالوعظ فيها !!]

(المدرسة الإكليريكية القبطية الأرثوذكسية بين الماضي والحاضر. حبيب جرجس ص 22)

ولكن بمثابرته التي لم تهن، تغير الحال، ولهذا كتب قائلاً:

[وكانت نهضة وعظية مباركة. وأخذ الشعب يتبعها من جهة إلى جهة لاستماع العظات التي كنا نلقيها وهكذا بدأت حركة الوعظ في الشعب]

(المدرسة الإكليريكية القبطية الأرثوذكسية بين الماضي والحاضر. حبيب جرجس ص 23)

ولقد بعث حبيب جرجس الحياة في المدرسة الإكليريكية من جديد، فخرجت للكنيسة خداما مثقفين وأنشأ أيضاً مدارس الأحد لتعتني بالنشء حتى يتربوا في أحضان الكنيسة ويرضعوا من لبنها. وكان من رعيلها الأول قادة الكنيسة في أيامنا هذه كهنة، وأساقفة وقداسة البابا الجالس على كرسي مار مرقس الذي يعتز بأبوة هذا الرائد المثالي، فقد قال في حفل تأبينه عام 1951 قصيدة بليغة أنقل لك بعض أبياتها الرائعة.

(مجلة مدارس الأحد – عدد نوفمبر وديسمبر 1951 ص 87).



أنت من أنت؟ رسول ههنا؟ أنت أبهى من رسول؟ أنت قلب

أنت قلب واسع في حضـنه عاش جيل كامل أو عاش شعب

أنت نبع من حنــان دافق أنت عطف، أنت رفق، أنت حب

وأب أنت ونحـن يـا أبي عشنا بالحب على صدرك نحبو

لك أبنـاء كثـار إنـما لك فوق الكل يا قديس رب



هكذا كان حبيب جرجس، وهكذا أثمرت دوحته، وامتدت أغصانها لتظلل حقل كنيستنا الناهضة.



صبغة الحركة

ظهر حبيب جرجس في وقت كانت الكنيسة القبطية تغط في نوم عميق، وتلفت يميناً وشمالاً فرأى المعسكرين الغربيين الكاثوليكي والبروتستانتي يتباريان في استقطاب أكبر نصيب من جسم أمي النؤوم.

وإليك ما كتبه الأستاذ نظير جيد (قداسة البابا الأنبا شنوده) عن ذلك إذ قال:

[إن قلة التعليم، وضعف الرعية، واضطراب الحال أعطى فرصة للخارجين أن يعملوا فمن ناحية البروتستانت نشط المراسلون الأمريكيون وخاصة الدكتور هوج، والدكتور وطسون، والدكتور هارفي، وإذا بهم قد أسسوا كنائس في الأزبكية وحارة السقايين والإسكندرية والفيوم والمنيا وأبي قرقاص وأسيوط والمطيعة والنخيلة وملوي والحواتكة والزرابي ومير وأبي تيج وصنبو وأخميم وقوص وإسنا ...

وإذا بنشاط كلية الأمريكان بأسيوط قد ازداد. كما أنشأ هؤلاء المراسلون أيضاً مدرسة للاهوت تخرج منها الكثيرون.

وتفاقم خطر الكاثوليك أيضا واخذوا يعدون العدة لرسامة "أسقفين" للوجه البحري والقبلي تحت رئاسة قبطي تكثلك هو "كيرلس مقار" الذي عين فيما بعد "بطريركاً" أو شبه بطريرك]

(مجلة مدارس الأحد – نوفمبر وديسمبر1951ص2).

رأي حبيب جرجس نشاط هذين المعسكرين فأخذ يصيح في وجه هذا، ويتصدى لهجمات ذاك. وسرعان ما جند الكتائب الكنسية ونشرها على طول البلاد وعرضها ليقفوا في وجه الغزاة الذين فشلوا في رسالتهم الأصلية وهي الكرازة للأمميين، واستسهلوا أن ينقضوا على القطيع المسكين ليضموا منه ما أمكن إلي معسكرهم ليوافوا إرسالياتهم بالتقارير التي تثبت نشاطهم.

ولقد نجح جيش حبيب جرجس فيما تجند لأجله، وأوقف تيار الردة من المسيحية إلى المسيحية!! ومن الأرثوذكسية إلى البروتستانتية والكاثوليكية.

ولكن حركة حبيب جرجس إلى جوار أنها حركة روحية، إلا أنها اصطبغت بالدرجة الأولى بالصبغة العقيدية، دفاعاً عن عقائد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية التي حاول المعسكران الغربيان طمسها والاعتداء عليها.

وما أدل على هذا الاتجاه في حركة حبيب جرجس من كتابة (الصخرة الأرثوذكسية) الذي يضم عدة عظات ألقاها في عديد من الكنائس على طول البلاد وعرضها وفيه دحض للبدع الكاثوليكية والبروتستانتية.



حساسية وتوجس

لقد نشأ عن هذه الخلفية حساسية شديد نحو كل خدمة قائمة الآن في أي مكان خشية أن تكون ذات منابع غريبة. ولقد استغلت قوات الظلمة وعدو الخير هذه الحساسية أسوأ استغلال. وأصبح من السهل على الشرير مقاومة أي عمل أو خدمة بإطلاق الشائعات وقيادة الحملات المسعورة بحجة أن هذه الخدمة بروتستانتية، ولا يستطيع المخادع أن يقيم دليل على صحة ما يقول ولكنه يستغل هذه الحساسية بإثارة التوجس والسجس (الشك) ليعرقل عمل المسيح.

من الضروري أن نكون ساهرين للحفاظ على عقيدتنا المقدسة بالدم إذا لزم الأمر. ولكن يلزم أن نتحفظ أيضاً من التطرف الشاذ حتى لا نسفك دم أبرياء، ونقلع الحنطة مع الزوان (مت29:13).



انطلاقة جديدة

والآن بعد أن نجحت حركة حبيب جرجس الخالدة في الحفاظ على المسلمات المقدسة، وإشعال روح النهضة في الكنيسة، فالأمل معقود بمن يطور هذا العمل في مساره المقدس، وينطلق به إلى آفاق جديدة حتى لا تتجمد الحركة عند حد المكاسب التي حققتها، خاصة وقد باتت قواعد الأرثوذكسية راسخة في الأذهان، وتشبث كل أرثوذكسي بعقيدته. وفي الوقت الذي انكمش فيه نشاط المعسكرين الغربيين بخروج عملاق الأرثوذكسية من مكمنه.

فالحاجة الآن ماسة إلى قلب مفتوح بالحب، وحوار مطروح للبحث، وبعث الروحانية الأرثوذكسية الأصيلة من خلال طقوسها الحية، وتعاليمها الرائدة، وتقاليدها الراسخة.

نريد أن نعكس للعالم صورة المسيح البهية في خطوطها الكلاسيكية المستقيمة الرأي.

وشكراً لله الذي أقام للكنيسة كاروز القرن العشرين الذي يحمل المشعل باعثاً النهضة في كل ربوع العالم من دانيها إلى قاصيها، قداسة البابا المعظم الأنبا شنوده الثالث.

 

 

الفصل الثالث عشر تأصيل المفاهيم



نبش الآبار
رحوبوت
تدفق البركات
تأصيل المفاهيم

قد يأخذ البعض على أن الكثير مما ذكرته عن الأرثوذكسية لا ينطبق مع الواقع الذي يرونه. ولكن يلزم لهؤلاء أن يفرقوا بين أمرين جوهريين:

المفاهيم الأصيلة في سموها.

والتطبيق غير السليم.


وما من شك أن التطبيق غير السليم لا يقلل من شأن المبادئ الأصيلة. فالطالب إذا أخطأ في تطبيق إحدى النظريات الهندسية وأخفق في حل التمارين الرياضية، فهذا لا يقلل من شأن النظرية الهندسية ولا يطيح بالحقائق الرياضية.

والحقيقة التي لا ينبغي أن تغيب عن البال أن التطبيق الخاطئ إنما هو صدأ لابد وأن يجلوه الزمن مع كل حركة نهضة وانتفاضة انتعاش ويقظة وعي.

نحن لا ننكر أن كنيستنا الحبيبة قد خاضت دياجير الظلمة مدة خمسة عشر قرناً، وتوارت الجواهر المتلألئة في وحل الجهالة، وساء تطبيق المفاهيم الفاخرة. كما مر بنا في أقوال المتنيح حبيب جرجس.

أما الآن فقد انجلى الموقف، وانقشعت الظلمة، وعثرنا على الكنوز المخبوءة، وتعرف الوعي الناهض على المفاهيم الإيمانية السليمة. وما بقي إلا أن نقوم بعملية تأصيل لها حتى تثبت شرعية أرثوذكسيتها، وقِدم جذورها الممتدة إلى عصر الرسل.



نبش الآبار

يعجبني جداً ما قام به أبونا اسحق قديماً إذ سجل له التاريخ المقدس أنه "عاد ونبش آبار الماء التي حفروها في أيام إبراهيم أبيه وطمسها الفلسطينيون ... ودعاها بأسماء كالأسماء التي دعاها بها أبوه" (تك18:26).

فما أحوجنا الآن إلى عمل كهذا تحقيقاً لتأصيل المفاهيم بإعادة نبش آبار مياه النعمة التي حفرها آباؤنا وطمسها الغلفاء. مع ملاحظة حتمية تسميتها بأسمائها الأولى بحسب فكر الآباء حتى لا يعاب على كنيستي إنها لا تتكلم عن هذه الكنوز والينابيع كالخلاص والتبرير والتجديد والتقديس والملء ... وغيرها من اختبارات النعمة الغنية.

وليس مستغرباً أن تحدث منازعات على بئر يُحفر كما حدث مع اسحق إذ يقول الكتاب: "وحفر عبيد اسحق في الوادي فوجدوا هناك بئر ماء حي فخاصم رعاة جرار رعاة اسحق .. فدعي اسم البئر عسق لأنهم نازعوه. ثم حفروا بئراً أخرى وتخاصموا عليها أيضاً فدعا اسمها سطنة" (تك19:26-21).

وهكذا تخاصم الرعاة حول بئر الماء الحي في عسق ومعناها (خصام) وفي سطنة ومعناها أيضا (خصام).

رحوبوت

شكراً لله أنه بعد هاتين الموقعتين يسجل الكتاب قائلاً: "وحفر بئراً أخرى ولم يتخاصموا عليها. فدعا اسمها رحوبوت وقال أنه الآن قد أرحب لنا الرب وأثمرنا في الأرض" (تك22:26).

وسيأتي هذا اليوم حتما الذي فيه ينتهي الخصام، ويقتلع النزاع من جذوره، ليزهو السلام في رحوبوت، وتجري مياه النعمة متدفقة في الأرض الرحبة ليؤتي بالثمر المتكاثر لحساب مجد الله.



تدفق البركات

ما أجمل ما ذكره الكتاب بعد بئر رحوبوت إذ يقول: "ثم صعد من هناك إلى بئر سبع فظهر له الرب في تلك الليلة وقال أنا إله إبراهيم أبيك لا تخف لأني معك وأباركك وأكثر نسلك من أجل إبراهيم عبدي. فبنى هناك مذبحاً ودعا باسم الرب ونصب هناك خيمته وحفر هناك عبيد اسحق بئراً" (تك23:26-25).

يا لها من بركات يغدقها الرب عندما يعاد نبش الآبار لتعطي مياهها الحية. وأولى تلك البركات ظهور الرب، فلقد قال السيد المسيح "الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني، والذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي" (يو21:14).

وما أقرب الشبه بين إزالة الأتربة من عيون الماء، وإزالة القشور من عيني شاول الطرسوسي ليبصر الرب.

والبركة الثانية لنبش الآبار هي حلول السلام، إذ قال الرب لاسحق " لا تخف ... " (تك24:26).

ومن تلك البركات التأييد الإلهي "إني معك" (تك24:26).

ومنها أيضا الإثمار بنسل مبارك كأبناء لله "أباركك وأُكثر نسلك" (24:26).

فما كان من اسحق إلا أن بنى مذبحاً ودعا باسم الرب، واستقر هناك وابتدأ يحفر بئر جديدة. فالبركة تحض على مزيد من العمل المبارك. لهذا فان عصر البركات قد أطل على كنيستنا وأننا بيقين على أبواب انتعاشات مباركة.

ألا ليت كل إنسان في الكنيسة يرفع قلبه بالصلاة ليفجر الرب ينابيع البركات والنعم لتنساب في الروابي والوديان وتغمر البقاع والقلاع.

 

 

الفصل الرابع عشر على طريق الوحدة



علامة مميزة
وحدة الروح
وحدة العقيدة
مدلول خطير
ننسى ما هو وراء
وحدة الهدف
كنيسة الوحدة
 


على طريق الوحدة

تعالت في الفترة الأخيرة من جيلنا صيحات مدوية، وشقت صلوات مخلصة طريقها إلى السماء، وبذلت جهود دائبة، والكل ينادي بحاجتنا إلى الوحدة. وما من شك أن هذه أمنية كل مؤمن مخلص له قلب المسيح، ومشاعر المسيح، ورغبة المسيح بأن تكون هناك رعية واحدة لراع واحد (يوحنا16:10) حتى يحتشد الجمع اللابس بيض الثياب والذي رآه يوحنا الرائي، من كل الأمم والقبائل والشعوب رافعين سعف السلام وأغصان الحب والوئام.

مدلول خطير

من المفروض أساساً أن تكون المسيحية من مشارق الشمس إلى مغاربها بيتاً روحياً للرب مقدساً (1بط5:2) مؤسساً على صخرة صلبة، ومبنياً بحجارة حية، ويتحتم أن يكون متماسكاً في وحدة متينة كقلعة راسخة أمام جحافل الظلمة في غابة شرسة.

ولكن الواقع المحزن أن المسيحية في العالم قد انقسمت شيعاً متعارضة، وتفتتت إلى أحزاب ومعسكرات متعادية. يا له من مدلول خطير! إذ قال الرب كل بيت منقسم على ذاته يخرب (مت25:12) فهل نجح الشيطان في مخططه الشرير ليدك حصون قلعة الإيمان؟ وهل تمكن من فتح نيران مدفعيته الجهنمية ليحيل فردوس الله على الأرض إلى تراب ودمار، ورماد خراب؟ كلا. وألف كلا. فقد دعم السيد أركان بيته بوعد صخري "أن أبواب الجحيم لن تقوى عليها" (مت18:16) فلابد أن ينبلج فجر الوحدة المشرق، على كنيسة المسيح حتى تنخرط تحت لواء واحد، ويحدوهم شعار واحد، وترتج الأرض تحت أقدام جيش واحد، وترتعد فرائص العدو أمام هتاف واحد، وتبيد قوات الظلمة أمام زحف مقدس واحد.


علامة مميزة

لكل جماعة ذات نشاط شعار ترفعه كعلم خفاق بما يحمل من معان.

فما هو شعار جماعة المسيح؟

شعار المسيحية هو الصليب بلا نزاع، يعلو منارات الكنائس يزين صدور النساء، يثبت في سترة الرجال، لا يفارق أيدي الكهنة، يُرشم على الجباه، يُوشم على أيادي المسيحيين، يرفرف على أعلام الدول المسيحية، يعلو تيجان الملوك.

ما هو المعنى الكامن في هذا الشعار؟

يقول قائل، أنه الخلاص، يقول آخر الفداء، ويقول ثالث الرحمة وغيرهم النعمة، وهذا كله جميل، ولكنني أري أن هذه جميعها ما هي إلا أبناء وبنات أم حانية هي المحبة. فلقد بين الله هذه المحبة بموته على الصليب (رو8:5) فتفجر من جنبه الخلاص والفداء والرحمة والنعمة …

فالصليب إذن شعارنا الخفاق بالمحبة الصادقة. وهكذا صارت المحبة العلامة المميزة لجماعة المسيح، لهذا قال: "بهذا يعرف الجميع إنكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضاً لبعض" (يو35:13).

وعلى أرض المحبة تنمو شجرة الوحدة

وفي مناخ الحب الحار تذبل أشواك الأحقاد، وتضمحل أعشاب الخلاف، وتتساقط أوراق الذات والكبرياء.

وبسقي مياه المحبة تترعرع غصون التآلف، وتزهر براعم الوفاق.

ما أحوجنا حقاً إلى سكيب المحبة ليجمع المتفرقين إلى الوحدة، كما جمع قديماً الأمم واليهود تحت سقف كنيسة واحده. (أف14:2-22).



ننسى ما هو وراء

في ظلال المحبة يلزمنا أن ننسى ما هو وراء. ننسى تاريخاً رهيباً لعبت فيه الدوافع غير المقدسة، والأغراض الشخصية، والذات والكبرياء وحب الرئاسات، والأحقاد، أدواراً غير شريفة، فمزقوا جسد المسيح، وفرقوا بين أعضاءه وتقاسموا عروسه، وصاروا أكثر ضراوة، من جحافل الرومان الذين لم يكسروا عظم المسيح، بل اكتفوا بتمزيق ثيابه، أما رداؤه فمن أجل الحفاظ على تماسكه ألقوا عليه قرعة.

في مرحلة من مراحل الطفولة المبكرة يسر الطفل بأن ينعزل عن الجماعة بدافع الأنانية الغريزية وحب الذات الفطري، ليمارس ألعابه منفرداً. ولكن سرعان ما يعبر الطفل هذه المرحلة بعد أن ينضج عقلياً ونفسياً، فينضم تحت جناح جماعة منظمة. وفي تصوري أن انشقاق المسيحية، وانعزال كل مذهب في زاوية ليمارس عبادته منفرداً، إنما هو مرحلة تمثل الطفولة الفكرية غير الناضجة. ولقد آن الأوان لمرحلة النضج الروحي التي تحتم علينا أن نعود إلى وحدانية الروح لنقوم بعمل مشترك وننسي كل ما للطفل (1كو11:13).



وحدة الروح

قبل بناء السد العالي على النيل كانت تغزونا مياه الفيضان في فصل الصيف، فتملأ المجرى وتتخطى الشطوط، وتعدو فوق وجه الأرض، ولا تستطيع قوة أن تقف أمامها. وتتعالى مرتفعة حتى تصبح مصر العليا بجملتها كالبحر الأبيض المتوسط. وأمام هذا الفيضان العالي تختفي صخور الجنادل، وشلالات النيل، وتتواري جسور الأراضي، وحدود الملكيات الخاصة، وتصبح الأرض كلها قطعة واحة مغمورة بمياه الفيضان، هذا هو ما نحتاج إليه في أيامنا هذه، نريد فيضاناً عالياً لمياه نهر النعمة، يغمر المسكونة كلها فتصير وحدة واحدة، وتختفي جنادل الأحقاد وشلالات العداوات، وحواجز العصبيات، وحدود التحزبات، وتعود إلى الكنيسة وحدة القلب، ووحدة الروح (أع1:2).

ما أحوجنا إلى حركة انتعاشية، ونهضة روحية كالتي سادت العالم في عصر الرسل.

وحدة الهدف

هناك مثل حكيم يقول: " في وحدة الهدف وحدة الصف" فأبناء القبيلة الواحدة ينسون أحقادهم وانقساماتهم، ويذوبون في صف واحد لمواجهة عدو مشترك.

وأمام المسيحية في العالم عدو مشترك، بل أعداء كثيرون، يهددونها ويتطاولون عليها، ويريدون سحقها، فهوذا أسد الإلحاد الزائر، يجول ملتمساً أن يلتهم من يصادفه، وهناك أخطبوط الجنس والانحلال يمد أذرعه الرهيبة ليزدرد شباب العالم وشيبه. وما أبشع عنكبوت الفلسفات المنحرفة الذي ينسج خيوطه على كل فكر فيظلمه. وما أرهب سرطان الأنبياء الكذبة الذين يفتكون بالغالبية العظمي.

لقد نجح الشيطان في أن يشغلنا بالمعارك الأهلية داخلياً حتى يخلو له المجال فيهلك خليقة العلي، ويجر العالم إلى المصير الرهيب.

ما أشد حاجتنا إلى اكتشاف مخطط إبليس الدنيء، فنحطم فخاخه، ونمزق شباكه، ونعد جيش الخلاص الباسل، لغزو العالم أجمع ببشارة السلام، وتخليص الفرائس من بين أنياب الأسود المتوحشة حتى نقيم مملكة المسيح على الأرض، ونشيد صرح الإيمان الشاهق، ونغرس بستان الحب، ونشق في الأرض أنهار النعمة ونعبد الطريق الصاعد فوق جبال الشركة المقدسة إلى أبواب فراديس العلي.



وحدة العقيدة

من الأمور الجوهرية حقاً أن نشيد الوحدة على أرض عقيدة صلبة، ذات دعائم راسخة، وإلا كانت وحدة هزيلة، لا تستطيع أن تثبت أمام العواصف الهوجاء، والأمواج العاتية فيكون سقوطها عظيماً. لذلك ينبغي أن يدور حوار عقائدي هادف بناء لا في قاعات الجدل والمباحثات العقلانية، ولا من منطلق الحكمة البشرية المجردة من مسحة الروح، ولا بأسلوب المصطلحات الجوفاء التي تفسر الحقائق اللاهوتية المفهومة بلغة غير مفهومة. وإنما ترنو عيوننا إلى حوار في روح الصلاة وأمام عرش النعمة وفي محضر المسيح، في بساطة الإيمان الأول، ليعود إلى الكنيسة رباط القلب الواحد (أع46:2).

إذن فلنخلع قبعات القرن العشرين، وقفزات المدنية الزائفة ولننق بيدر العقيدة الأصيلة من زغل الحكمة البشرية، والفلسفات العصرية، ولنعد إلى أهرامات الرسل لنحيا حضارة المسيح. ولننقب في حفريات الآباء لنتعرف على معالم آثار المسيح. فان كنا نريد أن نحيا عصر المسيح حقاً فلندخل إلى بطون التاريخ ونزيل أكداساً من تراكمات الأجيال ليفج النور من جديد بنفس الأسلوب، وفي ضوء فنار العقيدة الشامخة التي أضاءت المسكونة بإشعاعها. وإلا صنعنا لأنفسنا مسيحية عصرية لا تمت إلى مسيحية العصور الأولى إلا بصلة الشعر المرسل الحديث الخالي من البحور والقوافي، بالشعر الكلاسيكي القديم الأصيل. وعلى الرغم من ذلك دُعي شعراً، واُعتبر آخر صيحات التطور في دنيا الأدب. وإن صح ذلك في نتاج العقل البشري لتطوره فما يصح على الإطلاق فيما يتعلق بالعقائد الإيمانية لأنها نتاج عقل الله الذي لا يعتريه تغيير أو ظل دوران. ينطبق هذا على العقيدة وعلى الكتاب المقدس مصدر العقيدة. فما خطر قط ببال إنسان أن يطور مبادئ الكتاب المقدس لتناسب العصر الحديث.



كنيسة الوحدة

مع إطلال الفجر المشرق تستيقظ أطيار الرياض لتستقبل صباح الأمل الباسم بسمفونية البهجة والتغريد. وسرعان ما يتبخر الندى من فوق ريشها الرقيق فتنطلق من أوكارها، وتحلق في السماء الصافية، وقد انخرطت في جماعة مؤتلفة، في وحدة مدهشة، وتشكيلات مبدعة، ففي لمح البصر تغير أوضاعها في تنسيق عجيب، بدون أن يشذ طير واحد عن الجماعة.

ونحن إذ قد أطل علينا فجر روح جديد، وأمل باسم سعيد، وتبخرت ثلوج الجمود الكئيب، فلسوف تتحقق طلبة رب المجد التي رفعها إلى الآب بأن "يكون الجميع واحداً" (يو11:17) "لأن طلبة البار تقتدر كثيراً في فعلها" (يع17:5).

لذلك فنحن على موعد لقاء مع الراعي الصالح على أرض كنيسة الوحدة المقدسة، حيث تتآلف الشعوب المؤمنة، وتتوحد الأجناس المختبرة، وسوف يعانق المؤمن الأمريكي أخاه المؤمن الزنجي، ويحتضن القديس الأفريقي شقيقه الآسيوي، وتتشابك أيادي المختبر الأوربي وتوأمه الأسترالي، ويصير الجميع واحداً في المسيح، يلتفون من حوله كباقة من الزهور، عربوناً للاجتماع المجيد على سحابة الرجاء للرحلة الأبدية إلى الربوع البهية، حيث يعزف الجميع على القيثارات الذهبية ترنيمة موسى والحمل، هاتفين قائلين:

"عظيمة هي أعمالك ... يا ملك القديسين.

لأن جميع الأمم سيأتون ويسجدون أمامك"

(رؤ2:15-4)